الاجتهاد و التقليد

اشارة

سرشناسه : فاضل موحد لنكراني، محمد، - 1310

عنوان و نام پديدآور : معتمد الاصول: تقرير ابحاث الاستاذ... روح الله الموسوي الامام الخميني/ محمد الفاضل اللنكراني

مشخصات نشر : تهران: موسسه تنظيم و نشر آثار الامام الخميني(س)، 1423ق. = 1381.

مشخصات ظاهري : ص 529

يادداشت : چاپ قبلي: موسسه تنظيم و نشر آثار الامام الخميني(س)، 1380 در دو مجلد است

يادداشت : عربي

يادداشت : كتابنامه به صورت زيرنويس

موضوع : اصول فقه شيعه -- قرن 14

شناسه افزوده : خميني، روح الله، رهبر انقلاب و بنيانگذار جمهوري اسلامي ايران، 1368 - 1279

شناسه افزوده : موسسه تنظيم و نشر آثار امام خميني(س)

رده بندي كنگره : BP159/8/ف 18م 6 1381

رده بندي ديويي : 297/312

شماره كتابشناسي ملي : م 81-47400

ذكر شؤون الفقيه

اشارة

إنّ هنا عناوين ستّة مختلفة من حيث الآثار و الأحكام نذكرها في ضمن امور:

الأوّل: من لا يجوز له الرجوع إلى الغير

و هو من حصلت له قوّة الاستنباط و إن كان جاهلًا بالأحكام الشرعيّة فعلًا، إذ لا دليل على جواز رجوع الجاهل مطلقاً إلى العالم، بل الدليل الفريد في هذا الباب كما سيجي ء هو بناء العقلاء و سيرتهم على رجوع الجاهل في كلّ فنّ و صنعة إلى العالم.

و من المعلوم عدم تحقّق هذا البناء في الجاهل الذي يكون الفصل بين جهله و علمه هو المراجعة إلى المدارك و صرف ساعة أو ساعتين مثلًا، فإنّ مثله و إن كان جاهلًا قبل الرجوع، إلّا أنّ الظاهر أنّه يلزم عليه المراجعة إلى المدارك لاستنباط الأحكام، خصوصاً بعد اختلاف أنظار المجتهدين و آراء المستنبطين، لعدم كون المسائل حسّية بل نظريّة تختلف حسب اختلاف الأنظار.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 424

و بالجملة: فالظاهر أنّه لا ريب في عدم جواز رجوع مثل هذا الشخص إلى مجتهد آخر، إمّا لعدم بناء العقلاء على الرجوع إلى العالم في مثل هذا المورد كما لا يبعد دعواه، و إمّا لعدم إحراز بنائهم عليه، كما أنّه لا مجال لإنكاره أصلًا، كما لا يخفى. و هذا لا فرق فيه بين المطلق و المتجزي بالنسبة إلى المسائل التي حصل له قوّة استنباط أحكامها.

الثاني: من يجوز له العمل بفتوى نفسه

و هو من بلغ رتبة الاجتهاد و حصلت له قوّة الاستنباط و كان قد استنبط الأحكام من مداركها.

و لا يخفى: أنّ البلوغ إلى هذه المرتبة مشروط بشرائط، و هي الاطّلاع على قوانين النحو و الصرف و لو بتحصيل قوّة بها يقدر على الرجوع إلى الكتب المشتملة عليها و الاطّلاع على القواعد المذكورة فيها.

و الاطّلاع على كيفيّة المحاورات العرفيّة التي بهذه الطريقة القيت الأحكام الشرعيّة خصوصاً الفرعيّة، و هذا أمر مهمّ ربّما تقع الغفلة عنه

لأجل كثرة المجانسة مع المطالب العقليّة و شدّة الممارسة مع الامور العلميّة، مع أنّه لا بدّ من إلقاء الروايات في محيط عرف أهل السوق و حملها على ما يفهمونه منها، لأنّ الراوي في كثير منها بل أكثرها كان من الأشخاص العاديّة و لم يكن مطّلعاً على المطالب العلمية بحيث يكون لفظ واحد عنده محتملًا لاحتمالات كثيرة موجبة لإجماله و عدم ظهوره في شي ء منها، كما نراه من بعض الفقهاء في كثير من المسائل الفقهيّة حيث يخرج الرواية الظاهرة في معنى عن الظهور إلى

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 425

الإجمال لأجل تكثير الاحتمال.

و لا بدّ أيضاً من الاطّلاع على أكثر قوانين المنطق، و الاطّلاع على بعض مسائل علم الكلام، كمسألة التحسين و التقبيح على ما ادّعاه الفريد البهبهاني، و من الاطّلاع على علم الرجال، و كذا اللغة و لو بالرجوع إلى كتبهما و استنباط معنى اللغة و حال الراوي من كونه ثقة أو غير ثقة، و من الاطّلاع على علم الاصول، لا على جميع مسائلها التي يبحث عنها في هذه الأعصار، بل على المسائل التي لها دخل في استنباط حكم من الأحكام، كما لا يخفى.

الثالث: من يجوز له التصدّي لمقام الإفتاء

و هو من جاز له العمل برأي نفسه لأجل بلوغه رتبة الاجتهاد و حصول قوّة الاستنباط له، و مخالفة بعض الأخباريين مع الاصوليين في جواز الاجتهاد لعلّها كانت لأجل توهّمهم كون الاجتهاد عندهم هو الاجتهاد المعمول عند العامّة من العمل بالقياس و الاستحسان عند فقد الدليل الشرعي، و إلّا فالاجتهاد بالمعنى المعروف عند الإماميّة ممّا لا محيص عنه للأخباري أيضاً، و ذلك لعدم إنكاره حجّية قول الإمام عليه السلام و عدم تعدّي الاصولي عنه، لأنّ دعواه مثل الإجماع

و الاستدلال به إنّما هي لأجل كونه مشتملًا على قول المعصوم أو كاشفاً عنه مثلًا.

و حينئذٍ يقوى في النظر كون النزاع بينهما لفظيّاً، لأنّ ما يقول به الاصولي لا محيص للأخباري من الالتزام به، و ما ينكره الأخباري لا يقول به الاصولي أيضاً، كما لا يخفى.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 426

الرابع و الخامس: من يجوز له التصدّي لمقام القضاوة و الحكومة

اشارة

اعلم أنّ مقتضى حكم العقل مع قطع النظر عن الشرع أنّه لا ترجيح لأحد على الآخر في نفوذ حكمه عليه و عدم جواز مخالفة حكمه، لأنّ الناس في ذلك شرعٌ سواء و إن كانوا مختلفين في العلم و العدالة و غيرهما من سائر الجهات، إلّا أنّ هذا الاختلاف بنفسه لا يوجب اختصاص بعضهم بالتصدّي لمقام القضاوة بحيث كان حكمه نافذاً على الباقين و لم يجز لهم التخطّي عنه، فالعقل لا يرى فضيلة لأحد على الآخر من هذه الجهة.

نعم هو يحكم بثبوت حكم اللّٰه تبارك و تعالي و نفوذه في حقّ جميع الخلائق، لكونهم مملوكين له، و المملوك لا يقدر على شي ء.

و أمّا مع ملاحظة الشرع فنعلم بأنّ الشارع المبيّن لجميع الأحكام حتّى أرش الخدش، و لجميع الآداب و المستحبّات حتّى آداب بيت الخلاء لم يهمل هذا الأمر، بل جعل هذا المنصب لبعض من أفراد الناس يقيناً لأجل اختلال النظام و لزوم الحرج، و القدر المتيقّن من هذا البعض هو العلماء، لأنّهم امناء الرسل و ورثة الأنبياء و رواة أحاديثهم و معدن أسرارهم، و القدر المتيقّن من العلماء هو الرجل العادل الحرّ البالغ، و بالجملة الجامع لجميع الشرائط.

ثمّ لا يخفى أنّ استلزام عدم نفوذ حكم أحد على الآخر، من حيث هو في نظر العقل للاختلال و الحرج، لا يوجب أن يحكم العقل

بثبوت هذه الفضيلة لبعض من الناس مع قطع النظر عن الشرع، لأجل أنّ تساوي جميع الأفراد يستلزم ذلك، و كما أنّ اختلال النظام أمر سدّ الشارع سبيله، كذلك العقل يحكم بسدّ هذا

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 427

الباب، و ذلك لأنّ غاية الأمر حكم العقل بأنّه لا بدّ من تحفّظ النظام و لزوم الاجتناب عمّا يوجب اختلاله.

و من الواضح أنّ هذا المعنى يغاير ثبوت فضيلة لبعض الناس على الآخر و كون حكمه نافذاً عليه و لو كان مخالفاً للواقع، كما لا يخفى.

و كيف كان: فلا بدّ في هذا الباب من ملاحظة الشرع، و قد عرفت أنّ مقتضى الدليل الإجمالي في هذا الباب كون المنصوب من جانب الشارع لهذا المنصب هو الفقيه الجامع لجميع الصفات المذكورة.

الأخبار الدالّة على ثبوت منصب الحكومة و القضاء للفقيه

و أمّا الدليل التفصيلي فهي الروايات الواردة في هذا الباب:

منها:- و هي العمدة- مقبولة عمر بن حنظلة المتقدّمة «1»، و هي تدلّ على أنّ التحاكم إلى مثل السلطان أو القاضي الموجودين في زمانهم في حقّ أو باطلٍ تحاكم إلى الطاغوت، و أنّ ما يأخذه بحكمه إنّما يكون سحتاً و إن كان حقّه ثابتاً، لأنّه أخذ بحكم الطاغوت، و إنّما أمر اللّٰه أن يكفر به، و تدلّ على أنّه لا بدّ من النظر في ذلك إلى من كان منكم، أي من الإماميّة الاثنى عشريّة ممّن قد روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا.

و الظاهر أنّ المراد برواية الحديث ليس مجرّد رواية حديث و لو كان حديثاً واحداً، بل المراد هو كونه راوية الحديث و من كان شأنه النقل له و لو بصورة الفتوى، كما هو المعمول في هذه الأعصار، و أنّ المراد من النظر

في

______________________________

(1)- تقدّم تخريجها في الصفحة 416.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 428

حلالهم و حرامهم و معرفة أحكامهم هو النظر و الاجتهاد و معرفة الأحكام عن دليل تفصيلي، كما هو شأن الفقيه، فالمستفاد من الرواية وجوب الرجوع في المنازعات و المحاكمات إلى الفقيه و المجتهد، لأنّه منصوب للحكومة و مجعول لها من قبل الصادق عليه السلام بقوله:

«فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً»

. نعم، يقع الكلام في أنّ المراد من الحكومة هل هو مجرّد منصب القضاوة، أو الأعمّ منه و من الحكومة و السلطنة، بحيث كان للفقيه السلطنة التامّة بالنسبة إلى جميع الامور و كان واجداً لمقامين: مقام القضاوة، و مقام الولاية و الحكومة؟

و الظاهر هو الوجه الثاني بقرينية صدر الرواية و سؤال السائل، فإنّ قوله: في رجلين من الأصحاب كان بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة، يدلّ على أنّ مراد السائل أعمّ من المنازعات التي يرجع فيها إلى القاضي لأجل فصل الخصومة و هي المنازعات المشتملة على المدّعي و المنكر و أمثالها، و من المنازعات التي يرجع فيها إلى الوالي و الحاكم كالمنازعات الواقعة بين الناس غير ما يشتمل منها على المدّعي و المنكر و شبهه، فإنّ رفع يد الغاصب مثلًا أمر لا يرجع فيه إلّا إلى الوالي، و لا شأن للقاضي في مثل هذه الامور أصلًا. فتعميم السائل التحاكم و تصريحه بالسلطان و القاضي معاً مع أنّ لكلّ منهما شأناً يغاير شأن الآخر دليل على أنّ المراد من المنازعة مطلق المنازعات.

و حينئذٍ فقوله بعد ذلك: «قلت: فكيف يصنعان؟» مرجعه إلى أنّه بعد حرمة التحاكم إلى السلطان و القاضي الجائرين ما وظيفة أصحابنا في مطلق المنازعات؟ فحكم الإمام

عليه السلام بالرجوع إلى الفقيه. فقوله عليه السلام: «

فإنّي قد

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 429

جعلته عليكم حاكماً»

بملاحظة صدر الرواية ظاهر في أنّ المراد من الحكومة أعمّ من القضاوة و السلطنة.

فثبت أنّ الفقيه ثابت له ما كان ثابتاً للإمام عليه السلام من التصدّي لأمر القضاء و نفوذ حكمه على الناس في جميع الامور.

و يدلّ عليه أيضاً أنّه عليه السلام جعل التحاكم إليهم في حقّ أو باطل تحاكماً إلى الطاغوت الذي أمر اللّٰه أن يُكفر به، مع أنّ انطباق عنوان الطاغوت على سلطان الجور الذي يرجع إليه في بعض المنازعات أولى من انطباقه على القاضي من قبلهم، فهو و إن كان جائراً و طاغوتاً، إلّا أنّه من شؤون الوالي و السلطان، و هو الأصل في الطغيان و رأس الضلال كما فسّر به الطاغوت في اللغة.

و من ذلك يظهر أنّ عمدة النظر في إرجاع الناس إلى الفقيه من الإماميّة إلى المنازعات التي كان يرجع فيها إلى السلطان.

نعم لا محيص عن الاعتراف بالدلالة على ثبوت منصب القضاوة له أيضاً، إلّا أنّه لا تنحصر دلالة المقبولة بذلك، و سؤال السائل بعد ذلك لا يدلّ عليه بعد عدم كون فهمه حجّة، مضافاً إلى احتمال كون السؤال عن بعض الفروع، أ لا ترى أنّه لا إشكال في دلالة المقبولة على جواز الرجوع إلى الفقيه الواحد مع عدم كونه مورداً لسؤال السائل أيضاً.

و كيف كان فلا إشكال في أنّه يستفاد من المقبولة جواز دخالة الفقيه في كلّ ما للقاضي و الوالي من الشؤون.

و يدلّ عليه أيضاً

رواية أبي خديجة قال: بعثني أبو عبد اللّٰه عليه السلام إلى أصحابنا فقال: «قل لهم: إيّاكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تدارى في

شي ء من الأخذ و العطاء أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفساق، اجعلوا بينكم رجلًا قد

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 430

عرف حلالنا و حرامنا، فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً، و إيّاكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر»

«1». لأنّ المراد بالقاضي إنّما هو معناه اللغوي الذي ينطبق على الحكومة أيضاً، مضافاً إلى أنّ ذكر السلطان الجائر في الذيل مع أنّه لم يكن الرجوع إليه إلّا في بعض المنازعات قرينة على عدم كون المراد بالقاضي خصوص المتصدّي لمنصب القضاوة، كما لا يخفى.

و يدلّ عليه أيضاً غيرها من بعض الروايات الاخر:

و منها:

رواية أبي البختري عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «إنّ العلماء ورثة الأنبياء و ذاك أنّ الأنبياء لم يورّثوا درهماً و لا ديناراً، و إنّما أورثوا أحاديث من أحاديثهم، فمن أخذ بشي ء منها فقد أخذ حظّاً وافراً ...»

«2»، الحديث.

و تقريب الاستدلال بها أنّ قوله عليه السلام:

«العلماء ورثة الأنبياء»

إن كان في مقام الإنشاء و بصدد جعل الوراثة للعلماء فلا خفاء في أنّ مقتضى إطلاق الوراثة كونهم وارثين للأنبياء في جميع شؤونهم و مناصبهم ما عدا منصب النبوّة.

و من الواضح ثبوت كلا المنصبين القضاوة و الحكومة للأنبياء. و إن كان في مقام الإخبار، كما يؤيّده بعض الأخبار، حيث ذكر هذه الجملة في سياق الجمل الخبريّة، فتدلّ أيضاً على الإطلاق لكن لا بوضوح الإنشاء و الجعل، كما لا يخفى.

______________________________

(1)- تهذيب الأحكام 6: 303/ 846، وسائل الشيعة 27: 139، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 6.

(2)- الكافي 1: 32/ 2، وسائل الشيعة 27: 78، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 8، الحديث 2.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 431

و منها:

مرسلة الصدوق قال:

قال أمير المؤمنين عليه السلام: «قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: اللهمّ ارحم خلفائي، قيل: يا رسول اللّٰه و مَن خلفاؤك؟ قال:

الذين يأتون من بعدي و يروون حديثي و سنّتي»

«1». و رواه في المجالس بزيادة:

«ثمّ يعلّمونها»

«2» فإنّ إطلاق الخليفة على الفقهاء من دون تقييدها بجهة خاصّة يدلّ على ثبوت منصبي القضاوة و الحكومة معاً لهم.

و منها:

رواية الفقه الرضوي عليه السلام أنّه قال: «منزلة الفقيه في هذا الوقت كمنزلة الأنبياء في بني إسرائيل»

«3». و منها:

رواية إسماعيل بن جابر عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام أنّه قال:

«العلماء امناء»

«4». و منها: غير ذلك ممّا يستفاد منه توسعة دائرة ولاية الفقيه و ثبوت جميع المناصب لهم.

و منها: غير ذلك ممّا يمكن أن يستفاد منه ذلك.

هل يكون منصب القضاوة و مقام الحكومة للمتجزّي أم لا؟

ثمّ إنّه يقع الكلام بعد ذلك في المتجزّي و أنّه هل يكون منصب القضاوة و مقام الحكومة ثابتين له أم لا؟

______________________________

(1)- الفقيه 4: 302/ 915، وسائل الشيعة 27: 139، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 7.

(2)- الأمالي، الصدوق: 152/ 4.

(3)- الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا عليه السلام: 338.

(4)- الكافي 1: 33/ 5.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 432

و نقول: ظاهر المقبولة أنّ المجعول له الحكومة بالمعنى الأعمّ هو الراوية لأحاديثهم الناظر في حلالهم و حرامهم و العارف لأحكامهم. و حيث إنّ المصدر المضاف و كذا الجمع المضاف يفيدان العموم فمقتضى ذلك انحصار هذا المنصب بالناظر في جميع الأحكام العارف لها بأجمعها فعلًا، فالجمود على ظاهر العبارة و الاقتصار عليه يعطي أنّ غير العارف بجميع الأحكام سواء كانت مَلَكة استنباط الجميع موجودة له أم لم تكن لا يصلح للحكومة و القضاوة، لعدم كونه عارفاً بجميع الأحكام فعلًا

على ما يقتضيه ظهور العبارة.

و حينئذٍ يشكل ذلك بأنّ حصول هذه الصفة و تحقّقها في غاية الندرة- لو لم نقل بامتناعه عادة- نظراً إلى أنّه كيف يمكن أن يكون الشخص عارفاً بجميع الأحكام بحيث إذا سئل كان مستحضراً للجواب و لم يكن يحتاج إلى المراجعة، و قوّة الاستنباط و الوصول إلى الحكم بعد المراجعة لا تسمّى عرفاناً أصلًا، كما هو أوضح من أن يخفى.

و على تقدير إمكان حصول هذه الصفة لبعض الأشخاص فالاطّلاع عليه متعسّر، بل متعذّر، فكيف يمكن جعل هذا المنصب له مع شدّة الاحتياج إلى شخص المجعول له هذا المنصب و كثرة المراجعة إليه في فصل الخصومة و رفع التنازع؟

فاللازم أن يقال بأنّ المراد بالعارف بأحكامهم هو الذي يكون عند العرف عارفاً بأحكامهم و لو كان عارفاً بأكثر تلك الأحكام، في قبال العارف بأحكام غيرهم من الأحكام الناشئة عن الامور غير الصالحة للدليلية، كالقياس و الاستحسان و غيرهما.

نعم لا بدّ من أن يكون عارفاً بأحكام القضاء، و هذه اللابدية تستفاد من

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 433

مناسبة الحكم و الموضوع، فإنّه لا معنى لجعل منصب القضاوة لمن لا يكون عالماً بأحكامها، خصوصاً بعد كون القضاء له أحكام خاصّة ليس لها كثير ارتباط بسائر أبواب الفقه.

فانقدح أنّ المجتهد المتجزّي الذي لا يسمّى عارفاً عُرفاً بأحكام الأئمّة و آراء العترة- صلوات اللّٰه عليهم أجمعين- لا يكون له حظّ من هذه المناصب الشريفة.

نعم قد عرفت أنّه لا يلزم أن يكون عارفاً بجميع الأحكام فعلًا و عن استحضار كما هو مقتضى ظاهر المقبولة التي هي العمدة في هذا الباب على ما عرفت «1».

و هاهنا فروع:

الأوّل: أنّه هل يجوز للعامّي التصدّي للحكم و القضاء مستقلًاّ أم

لا؟ فيه قولان: حكي عن الجواهر «2» أنّه استدلّ لنفوذ حكم العامّي و جواز قضائه بعدّة من الآيات و الروايات و كذا بغيرهما من الوجوه و الاعتبارات.

و لكن لا يخفى على المتأمل فيها أنّه لا يستفاد من شي ء منها ذلك، و لا ينهض شي ء من تلك الوجوه و الاعتبارات لإفادة الجواز، فراجع تلك الأدلّة و تأمّل فيها تجدها غير ناهضة لما رامه قدس سره مضافاً إلى أنّك عرفت ظهور المقبولة المتقدّمة في أنّ المجعول له الحكومة هو الواجد للخصوصيّات المذكورة فيها. و كيف كان فلا ينبغي الارتياب في ذلك أصلًا.

______________________________

(1)- تقدّم في الصفحة 427.

(2)- جواهر الكلام 40: 15.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 434

الثاني: أنّه هل يجوز للمجتهد أن يأذن للعامّي و ينصبه للتصدّي للحكم و القضاء أم ليس له هذا الحقّ؟ و لا يخفى أنّ جواز ذلك للمجتهد متفرّع أوّلًا على ملاحظة أنّه هل كان للنبي صلى الله عليه و آله و سلم و الأئمّة عليهم السلام هذا الحقّ الذي يرجع إلى جعل منصب القضاء و الحكم لشخص عامّي أم لا؟

و ثانياً: على ملاحظة أنّه لو فرض ثبوت هذا الحقّ لهم فهل يكون في البين دليل على ثبوت هذا الحقّ للمجتهد أم لا؟

إذا عرفت ذلك فنقول: أمّا المقدّمة الاولى الراجعة إلى ثبوت هذا الحقّ للنبي و الأئمّة عليهم السلام فالظاهر خلافه، لأنّه على تقدير تحقّق مثل هذا النصب لم يكن بدّ من الالتزام بالجواز، و لكنّ الظاهر عدم تحقّقه، و أمّا على تقدير عدم تحقّقه فنحن نعلم بأنّ العامّي لم يكن له أهليّة، و مع عدمها كيف يمكن جعل هذا المنصب له، مضافاً إلى أنّ الشكّ في ثبوت هذا الحقّ لهم يكفي

في عدم ثبوته للمجتهد، كما هو واضح.

و أمّا المقدّمة الثانية فالظاهر ثبوتها.

و دعوى: أنّ الالتزام بعموم المنزلة و ثبوت جميع ما للنبي و الأئمّة- صلوات اللّٰه عليهم أجمعين- للمجتهد الفقيه يوجب تخصيص الأكثر، لأنّه كان للنبي صلى الله عليه و آله و سلم خصائص ربّما تبلغ سبعين كما ذكره العلّامة في كتاب التذكرة «1» و لم يكن شي ء من تلك الخصائص ثابتاً للأئمّة عليهم السلام فضلًا عن الفقيه، و كذلك كان للأئمّة عليهم السلام بعض الخصائص التي نعلم بأنّه لا يتجاوز عنهم و لا يثبت للمجتهد.

فكيف يمكن حينئذٍ دعوى عموم المنزلة و إطلاق الوراثة؟

______________________________

(1)- تذكرة الفقهاء 2: 565/ السطر 29 (ط- حجري).

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 435

مدفوعة: بأنّ الكبرى الكلّية التي نحن ندّعيها هو ثبوت جميع ما كان للنبي و الأئمّة من حيث ثبوت الحكومة لهم لا جميع ما ثبت لهم و لو من جهة النبوّة و الإمامة، و حينئذٍ لا يلزم تخصيص الأكثر بوجه، فالمقدّمة الثانية لا مجال لإنكارها. نعم قد عرفت عدم تماميّة المقدّمة الاولى، و هو يكفي في عدم الجواز كما هو واضح.

الثالث: هل يجوز للفقيه توكيل العامّي في الحكم و القضاء من غير أن ينصبه لذلك، أم لا يجوز التوكيل أيضاً؟ و دعوى الجواز مبتنية على ثبوت الإطلاق لأدلّة الوكالة، أو دعوى ثبوت بناء العقلاء على التوكيل في مثل هذه الامور، بضميمة عدم الردع عنه، و كلتا الدعويين ممنوعتان.

أمّا دعوى الإطلاق لأدلّة الوكالة، فنقول: إنّ ما يمكن و توهّم دلالته على الإطلاق من الروايات الواردة في الباب روايتان:

إحداهما:

رواية معاوية بن وهب و جابر بن زيد جميعاً عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام أنّه قال: «من وكّل رجلًا على

إمضاء أمرٍ من الامور، فالوكالة ثابتة أبداً حتّى يعلمه بالخروج منها كما أعلمه بالدخول فيها»

«1». ثانيتهما: رواية اخرى مثل الرواية الاولى «2»، و من الواضح عدم دلالة شي ء منهما على الإطلاق، بل هما بصدد بيان أمر آخر مثل افتقار العزل إلى الإعلام بالخروج، كما لا يخفى.

و أمّا دعوى بناء العقلاء- فمضافاً إلى عدم ثبوت هذا البناء مع التفاتهم إلى

______________________________

(1)- الفقيه 3: 47/ 166، وسائل الشيعة 19: 161، كتاب الوكالة، الباب 1، الحديث 1.

(2)- الفقيه 3: 49/ 170، وسائل الشيعة 19: 162، كتاب الوكالة، الباب 2، الحديث 1.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 436

أهمّية المنصب- نقول: لم يثبت عدم الردع، لأنّ ثبوته يحتاج إلى دعوى ثبوت هذا البناء في زمن الشارع، و هو لم يردع عنه، مع أنّه لم يكن هذا البناء في ذلك الزمان أصلًا حتّى يردع عنه أو لم يردع.

فانقدح: أنّه كما لا يجوز للفقيه جعل هذا المنصب للعامّي كذلك لا يجوز له توكيله في ذلك، بل لا بدّ له من المباشرة بنفسه.

هذا تمام الكلام فيما يتعلّق بمن يجوز له التصدّي للقضاء من الجهة التي ترتبط بالمقام، و إلّا فللقاضي شرائط اخر مذكورة في الفقه.

السادس: من يجوز الرجوع إليه

و لا شكّ في اعتبار اجتهاده و عدم اجتهاد الراجع، لأنّ المستند في هذا الباب هو رجوع الجاهل إلى العالم، و هو يقتضي ذلك، و هذا ممّا لا إشكال فيه، إنّما الإشكال فيما إذا وجد العالم و الأعلم معاً و أنّه هل يتعيّن الرجوع إلى الأعلم، أو يتخيّر بين الرجوع إليه و الرجوع إلى العالم؟

مقتضى الأصل الأوّلي: وجوب تقليد الأعلم

اشارة

و ربّما يستدلّ على تعيّن الرجوع إلى الأعلم تارةً: بأنّ جواز الرجوع إليه إجماعي، و جواز الرجوع إلى غيره مع وجوده مشكوك فيه، فيتعيّن الرجوع إليه، لأنّ جواز الرجوع إلى الغير و الأخذ بقوله في مقام العمل يحتاج إلى الدليل، و لا دليل عليه بالنسبة إلى غير الأعلم معه.

و اخرى: بأنّه يدور الأمر بين التعيين و التخيير، و لا بدّ هنا من الأخذ

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 437

بخصوص المعيّن و إن قلنا بجريان البراءة عند دوران الأمر بينهما في سائر الموارد، لأنّ مورد الدوران هنا هو الطريق و الحجّة، لأنّ فتوى العالم طريق للجاهل و حجّة بالنسبة إليه، فالأمر دائر بين كون الحجّة هو خصوص فتوى الأعلم و كان فتوى العالم أيضاً طريقاً، فالأمر يرجع إلى الشكّ في طريقيّة قول العالم مع وجود الأعلم، و لا ريب في أنّ الطريقيّة و الحجّية تحتاج إلى الدليل، و لا دليل بالنسبة إليه، كما لا يخفى.

و ثالثة: بدليل الانسداد بتقريب أنّ الرجوع إلى العلم التفصيلي في كلّ مسألة متعذّر بالنسبة إلى الناس، و الامتثال العلمي الإجمالي الراجع إلى الاحتياط التامّ غير جائز أو غير واجب، و الرجوع إلى المفضول عند وجود الفاضل ترجيح للمرجوح على الراجح، فيتعيّن الرجوع إلى الفاضل.

و يرد على هذا الدليل أنّه لا مانع من التبعيض

في الاحتياط، و لا يكون الرجوع إلى المفضول ترجيحاً للمرجوح على الراجح مطلقاً، لأنّه قد يكون فتوى المفضول مطابقاً للأفضل من الفاضل الموجود، كما لا يخفى، هذا.

و ربّما استدلّ على عدم تعيّن الفاضل بالاستصحاب؛ أي: استصحاب التخيير الثابت فيما إذا كانا متساويين في العلم أوّلًا ثمّ فضل أحدهما على الآخر، فإنّ زوال ذلك التخيير بحدوث الفضل في أحدهما غير معلوم، فيستصحب.

و قد ردّ عليهم هذا الاستدلال بالاستصحاب من الطرف الآخر، و تقريبه أنّه إذا لم يكن في البين إلّا مجتهد واحد، ثمّ وجد آخر مفضول، فإنّه مع وجوده يشكّ في زوال تعيّن الرجوع إلى الأوّل الثابت قبل وجود الآخر.

و لا بدّ لنا من التكلّم في مثل هذه الاستصحابات و نقول: قد أجاب الشيخ قدس سره

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 438

عن استصحاب التخيير- على ما في تقريرات بحثه- بأنّ التخيير الثابت في حال التساوي إنّما كان باعتبار القطع بعدم ترجيح أحدهما على الآخر في العلم و نحوه ممّا يشكّ في كونه مرجّحاً فحيث زال القطع المزبور بحدوث ما يحتمل كونه مرجّحاً، أعني الفضل في أحدهما امتنع الاستصحاب «1»، هذا.

و ربّما يجاب عنه أيضاً: بأنّ التخيير المستصحب حكم عقلي، و لا يجوز استصحاب الأحكام العقليّة.

و لكنّه يندفع بأنّ المستصحب هو التخيير الشرعي المستكشف من التخيير العقلي بقاعدة الملازمة، و لكنّه مع ذلك لا مجال لاستصحابه، لأنّ الأحكام الشرعيّة المنكشفة من الأحكام العقليّة بقاعدة الملازمة تتبع في السعة و الضيق مناط تلك الأحكام العقليّة، و لا يعقل أن تكون ثابتة بملاك آخر، فإذا كان الملاك للحكم بالتخيير هو القطع بعدم ترجيح أحدهما على الآخر في العلم و نحوه فكيف يمكن أن يكون الحكم الشرعي

ثابتاً مع وجود ما يحتمل كونه مرجّحاً أعني الفضل في أحدهما، مع أنّه تابع للحكم العقلي مستكشفاً منه، فالتخيير المستصحب ممّا يقطع بعدمه مع تحقق الفضل في أحدهما، و التخيير في زمان الشكّ على تقديره كان حكماً آخر حادثاً في ذلك الزمان و لا يكون مستتبعاً للحكم العقلي، و الجامع بين التخييرين لا يكون مجعولًا شرعاً و لا مترتّباً عليه أثر شرعي كما ذكرناه مراراً، فلا موقع لاستصحابه.

______________________________

(1)- مطارح الانظار: 273/ السطر 23.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 439

حول الاستدلال ببناء العقلاء للتقليد

و لا بدّ بعد ذلك من الرجوع إلى أصل ما يدلّ على التقليد من الدليل، ثمّ التكلّم في أنّ مقتضاه هل هو التخيير أو تعيّن الرجوع إلى الأعلم فنقول: الدليل عليه هو بناء العقلاء على رجوع الجاهل في كلّ صنعة إلى العالم بها، و لا إشكال في أصل ثبوت هذا البناء، فلا مجال للمناقشة فيه.

شبهة عدم وجود هذا البناء في زمن الأئمّة عليهم السلام

إنّما الإشكال في أنّ بناء العقلاء على شي ء بمجرّده لا يكون دليلًا على ذلك الشي ء ما لم يكن مورداً لإمضاء الشارع و لو بعدم الردع عنه.

مع أنّه قد يقال في المقام: إنّ بناء العقلاء على رجوع الجاهل بالأحكام الشرعيّة إلى المجتهد المستنبط لها، و بعبارة اخرى: بناء العقلاء على التقليد، أمر حادث بعد الغيبة الكبرى، و لم يكن ثابتاً في زمان النبي و الأئمّة- صلوات اللّٰه عليهم أجمعين- بوجه حتّى يكون عدم الردع عنه كاشفاً عن كونه مرضيّاً للشارع، كما هو الشأن في جميع الامور التي كان بناء العقلاء عليها حادثاً في الأزمنة المتأخّرة، فإنّه لا يكون شي ء منها بثابت عند الشارع، لعدم ثبوته في زمانه حتّى دلّ عدم ردعه على رضايته، فاللازم على من يجوّز التقليد مستنداً إلى بناء العقلاء عليه إمّا إثبات كون التقليد و الرجوع إلى المجتهد بهذا النحو المعمول في هذه الأزمنة ثابتاً في زمان المعصومين عليهم السلام أيضاً، و إمّا إثبات كون حدوثه في هذه الأزمنة مع عدم ردع الشارع في ذلك الزمان أيضاً كاشف عن

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 440

رضى الشارع به، و بدون إثبات أحد الأمرين لا مجال لتجويز التقليد أصلًا.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في مقام الإشكال على الاستدلال للتقليد ببناء العقلاء.

الجواب الأوّل: ثبوت الاجتهاد و التقليد بهذا النحو في زمن الأئمّة عليهم السلام

و يرد عليه أوّلًا: أنّ الظاهر ثبوت التقليد و الاجتهاد بهذا النحو في زمن الأئمّة عليهم السلام و لنا على ذلك شواهد كثيرة من الروايات الواردة عنهم عليهم السلام و هي على طائفتين يكفي إثبات مضمون إحداهما على سبيل منع الخلوّ.

الطائفة الاولى: ما يستفاد منه جواز الاجتهاد و الاستنباط:

منها:

ما رواه ابن إدريس في آخر السرائر نقلًا من كتاب هشام بن

سالم عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «إنّما علينا أن نلقي إليكم الاصول و عليكم أن تفرّعوا»

«1». و نقل من كتاب أحمد بن محمد بن أبي نصر عن الرضا عليه السلام قال: «علينا إلقاء الاصول و عليكم التفريع»

«2»، و هل الاجتهاد إلّا التفريع على الاصول المأخوذة عنهم و القواعد المسموعة منهم؟ أ لا ترى أنّ جميع المباحث المذكورة في باب الاستصحاب التي ربّما تبلغ إلى كتاب مستقل يدور حول «لا تنقض اليقين بالشكّ» الذي هو أصل من الاصول الصادرة عنهم؟ و هكذا سائر التفريعات.

______________________________

(1)- السرائر 3: 575، وسائل الشيعة 27: 61، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 6، الحديث 51.

(2)- السرائر 3: 575، وسائل الشيعة 27: 62، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 6، الحديث 52.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 441

و بالجملة: لا مجال للمناقشة في أنّ الاجتهاد عند الإماميّة- رضوان اللّٰه عليهم- هو التفريع على خصوص القواعد المتلقّاة عنهم في قبال الجمهور الذين يعملون بالقياس و الاستحسان مع عدم كونهما من الدين، بل يوجبان محقه، كما

ورد في رواية أبان: «أنّ السنّة إذا قيست محق الدين»

«1». و منها:

ما رواه أبو حيون مولى الرضا عن الرضا عليه السلام قال: «من ردّ متشابه القرآن إلى محكمه فَقَدْ هُدِيَ إِلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ» ثمّ قال: «إنّ في أخبارنا محكماً كمحكم القرآن، و متشابهاً كمتشابه القرآن، فردّوا متشابهها إلى محكمها، و لا تتّبعوا متشابهها دون محكمها فتضلّوا»

«2». فإنّ ردّ المتشابه إلى المحكم لا يتيسّر بدون الاجتهاد، و لا يمكن أن يتحقّق بدون مقدّماته.

و منها:

ما رواه داود بن فرقد قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام يقول: «أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا، إنّ الكلمة

لتنصرف على وجوه، فلو شاء إنسان لصرف كلامه كيف شاء و لا يكذب»

«3»، فإنّ تشخيص الوجه المقصود للإمام عليه السلام لا يمكن بدون الاجتهاد.

و منها: الأخبار الدالّة على حرمة الفتوى بغير علم الظاهرة في عدم

______________________________

(1)- الكافي 1: 46/ 15، وسائل الشيعة 27: 41، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 6، الحديث 10.

(2)- عيون أخبار الرضا عليه السلام 1: 290/ 39، وسائل الشيعة 27: 115، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 22.

(3)- معاني الأخبار: 1/ 1، وسائل الشيعة 27: 117، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 27.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 442

تحريمها إذا كان بعلم و حجّة «1»

. و منها: الأخبار العلاجيّة «2» الواردة في علاج تعارض الخبرين و أنّه يؤخذ بموافق الكتاب و مخالف العامّة، فإنّ تشخيص الموافق للكتاب عن غيره و مخالف العامّة عن غيره لا يمكن بدون الاجتهاد، كما هو واضح.

و منها: خصوص المقبولة «3» الواردة في تعارض الحكمين و اختلافهما لأجل الاختلاف في مستند حكمهما، فإنّها ظاهرة في أنّ الحاكم يجوز له استنباط الحكم من الروايات الصادرة عنهم في الشبهات الحكميّة و الحكم على طبقه، كما لا يخفى.

و منها: ما يدلّ على النهي عن الحكم بغير ما أنزل اللّٰه «4» الظاهر في جواز الحكم بما أنزل اللّٰه.

و من الواضح أنّ تشخيص ما أنزل اللّٰه لا يكاد يمكن بدون مراعاة جهات الواقعة، و اختلاف ما ورد فيها من الأدلّة، و تشخيص ما هو الحقّ عن غيره.

و منها:

رواية علي بن أسباط قال: قلت للرضا عليه السلام: يحدث الأمر لا أجد بدّاً من معرفته، و ليس في البلد الذي أنا فيه أحد أستفتيه من مواليك؟ قال:

فقال: «ائت

فقيه البلد فاستفته من أمرك، فإذا أفتاك بشي ء فخذ بخلافه، فإنّ

______________________________

(1)- راجع وسائل الشيعة 27: 20، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 4.

(2)- راجع وسائل الشيعة 27: 106، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9.

(3)- الكافي 1: 54/ 10، وسائل الشيعة 27: 106، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 1.

(4)- راجع وسائل الشيعة 27: 31، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 5.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 443

الحقّ فيه»

«1». و هذا يدلّ على أنّ الاستفتاء و الرجوع إلى فتوى الفقيه في زمان الأئمّة عليهم السلام أيضاً كان مفروغاً عنه عندهم و أمراً متداولًا بينهم. غاية الأمر أنّ السائل في هذه الرواية إنّما يسأل عمّا لو لم يكن في البلد من يستفتيه من فقهاء الإماميّة.

و منها:

ما رواه في المستدرك عن نهج البلاغة قال عليه السلام فيما كتب إلى قثم بن عباس: «و اجلس لهم العصرين فافت للمستفتي و علّم الجاهل و ذاكر العالم»

«2». و منها: رواية يونس الطويلة «3» الواردة في الاستحاضة الدالّة على جواز الاجتهاد، حيث إنّه عليه السلام يستدلّ بكلام النبي صلى الله عليه و آله و سلم و يعلّم طريق الاجتهاد و الاستفادة من الكلمات الصادرة عنهم.

و منها: رواية زرارة «4» الواردة في باب المسح الدالّة على سؤاله عن الإمام عليه السلام حيث حكم بأنّ المسح على بعض الرأس، و جوابه بأنّه لمكان الباء، و لم ينكر عليه طريق الاستفادة من الكتاب، كما هو شأن المجتهد.

______________________________

(1)- عيون أخبار الرضا عليه السلام 1: 275/ 10، وسائل الشيعة 27: 115، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 23.

(2)- نهج البلاغة: 457/ 67، مستدرك الوسائل 17: 315، كتاب القضاء، أبواب صفات

القاضي، الباب 11، الحديث 15.

(3)- الكافي 3: 83/ 1، وسائل الشيعة 2: 276، كتاب الطهارة، أبواب الحيض، الباب 3، الحديث 4.

(4)- الفقيه 1: 56/ 212، وسائل الشيعة 1: 412، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 23، الحديث 1.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 444

و منها: رواية عبد الأعلى «1» الواردة في المسح على المرارة الدالّة على أنّ هذا و أشباهه يعرف من كتاب اللّٰه و لا يحتاج إلى السؤال.

و منها: ما قاله أبو جعفر عليه السلام لأبان بن تغلب ممّا يدلّ على حبّه عليه السلام لأن يجلس في المدينة و يبيّن للناس مسائل الحلال و الحرام و يفتي لهم «2»

. و منها: غير ذلك.

و أمّا الطائفة الثانية الدالّة على إرجاع العوام من الناس إلى الخواصّ من أصحابهم فكثيرة جدّاً، كما يظهر بالتتبّع في مظانّها «3»

. و بالجملة: فالمناقشة في أصل وجود الاجتهاد و التقليد في تلك الأزمنة ممّا لا ينبغي الإصغاء إليها.

الجواب الثاني: كفاية عدم الردع للبناء الفعلي لإحراز رضى الشارع

نعم يقع الإشكال من جهة اخرى، و هي أنّه لا شكّ في أنّ هذه الاختلافات الكثيرة الموجودة بين أهل الفتيا في مثل هذا الزمان لم تكن في زمان الأئمّة عليهم السلام قطعاً، و حينئذٍ فكيف يمكن إحراز رضى الشارع و إمضائه لبناء العقلاء الموجود فعلًا، بعد اختلافه مع البناء المتحقّق في الزمان السابق اختلافاً كثيراً لا يمكن أن يقاس أحدهما بالآخر أصلًا؟ فلا محيص حينئذٍ عن التوسّل بأنّ

______________________________

(1)- تهذيب الأحكام 1: 363/ 1097، وسائل الشيعة 1: 464، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 39، الحديث 5.

(2)- وسائل الشيعة 30: 291، الفائدة الثانية عشرة.

(3)- راجع وسائل الشيعة 27: 136، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 445

عدم الردع للبناء الفعلي يكفي في إحراز رضى الشارع و تنفيذه له.

توضيحه: أنّه لا شكّ في أنّه لم يكن بناء الشارع في تبليغ الأحكام و هداية الأنام إلّا على التوسّل بالطرق العقلائيّة و الامور العاديّة، و لم يكن بناءه في مقام بيان الأحكام على الرجوع إلى علمه بالمغيبات و تبليغ الأحكام حسب ما يعطيه ذلك العلم.

و حينئذٍ: فليس دعوانا أنّ الشارع كان عليه أن يردع عن هذه الطريقة الفعليّة لو كانت غير مرضيّة له راجعة إلى أنّه لأجل كونه عالماً بالمغيبات لا بدّ له الردع أو الإمضاء بالنسبة إلى الامور المستقبلة و المتأخّرة عن زمانه، و إذا لم يردع يكشف ذلك عن رضاه بذلك.

بل نقول: إنّ هذه المسألة و هي الاجتهاد و الاستنباط و الرجوع إلى العالم بهذا النحو المعمول المتغاير لما كان متحقّقاً في الزمان السابق ممّا يقتضي طبع الأمر حدوثها في هذه الأزمنة، بحيث لم يكن حدوثها مخفيّاً على العارفين بمسألة الإمامة و أنّه يغيب الثاني عشر من شموس الهداية مدّة طويلة عن أعين الناس و أنظار العامّة، بحيث لا يكاد يمكن لهم الرجوع إليه و الاستضاءة من نور الولاية، و في ذلك الزمان لا بدّ للناس من الرجوع إلى علمائهم و الاستفتاء منهم مع شدّة اختلافهم بحيث قلّما يتّفق اتّحاد فتوى فقيه واحد في كتبه المختلفة، بل في جميع المواضع من كتاب واحد، فضلًا عن اتّحاد فقيهين أو الفقهاء منهم، و كما أنّ أصل غيبة الإمام عليه السلام و اضطرار الناس إلى الرجوع إلى فقهائهم كان معلوماً في زمان الأئمّة عليهم السلام لخواصّ أصحابهم، فضلًا عن أنفسهم، كذلك وجود هذا الاختلاف الكثير و شدّة الشقاق و كثرة الآراء و الأقوال في زمان

الغيبة كان معلوماً لديهم أيضاً، بل يمكن أن يقال- كما هو الظاهر- إنّهم عليهم السلام

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 446

عمدوا إلى إيجاد هذا الاختلاف و هيّأوا مقدّماته اختياراً، لغرض بقاء الدين، و صيرورة النظر في الروايات الصادرة عنهم، و استخراج مراداتهم من الفنون حتّى يهمّ بعض الناس الورود في هذا الفنّ و صرف أوقاته فيه، و بذلك يتحقّق حزب إلهي في مقابل سائر الأحزاب، و لو أنّهم كانوا قد جمعوا آرائهم في رسا واحدة و نشروها بين الامّة ليرجع إليها كلّ من يقتدى بهم من دون تكلّف و مشقّة نعلم قطعاً بأنّه لم يكن يبقى من الدين في مثل هذه الأزمنة عين و لا أثر، كما هو ظاهر لمن تدبّر.

و بالجملة: فلا ينبغي الشكّ في أنّ هذا الوضع الفعلي كان معلوماً في زمان الأئمّة عليهم السلام لا لأجل كونهم مطّلعين على ما يكون، بل لأجل كون طبع الأمر ينجرّ إلى ذلك، و مع ذلك فلا محيص عن الالتزام بأنّ عدم ردعهم يكشف عن إمضاء الشارع و تنفيذه لنفس هذه الطريقة، فافهم و اغتنم.

إذا عرفت ذلك فنقول:

مناط بناء العقلاء في رجوع الجاهل إلى العالم و مقتضاه

إنّ رجوع الجاهل إلى العالم يمكن أن يكون لأجل حصول الاطمئنان من قوله، بحيث لا ينقدح في ذهنه احتمال الخلاف و لا يلتفت إليه، و على تقدير التوجّه و الالتفات لا يعتنى به.

و يمكن أن يكون لأجل انسداد باب العلم عليه و اضطراره من الرجوع إليه.

و يمكن أن يكون لأجل التبعيّة لأئمّتهم و رؤسائهم الجاعلين لهذا القانون في الأزمنة السابقة لأغراض منظورة لهم، من دون أن يكون أمراً ارتكازيّاً للناس، بل صار ارتكازيّاً لهم بعد جعل رؤسائهم.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 447

فهذه

احتمالات متصوّرة في بادئ النظر، لكن لا سبيل إلى الثاني، لأنّ الانسداد لا ينتج الرجوع إلى العالم و التعبّد بقوله، بل يقتضي الاحتياط و لو مبعّضاً كما لا يخفى.

و الثالث أيضاً في غاية البعد بل مستحيل عادةً فإنّا نرى أنّ هذا الأمر- و هو رجوع الجاهل إلى العالم- أمر متّفق عليه بين جميع أهل الأمصار في جميع الأعصار و القرون.

فدعوى استناد ذلك إلى جعل الأئمّة و الرؤساء ترجع إلى تصادف اتّفاق جميع الأئمّة على جعل هذا الأمر مع كثرة الفصل بين البلاد و عدم الارتباط بين ساكنيها في تلك الأزمنة أصلًا، فإسناد ذلك إلى مجرّد التصادف مستبعد جدّاً، بل محال عادة، كما عرفت.

فلا محيص عن الالتزام بأنّ الوجه في رجوع الجاهل إلى العالم هو كون قوله طريقاً موجباً لحصول الاطمئنان بحيث لا يكاد ينقدح في ذهنهم احتمال الخلاف كما هو الشأن في مثل قاعدة اليد من القواعد العقليّة المتداولة بين الناس «1». نعم لا يبعد أن يكون للانسداد دخل في أعمالهم في جميع الموارد أو في بعضها.

لكن يرد على هذا الوجه: أنّه كيف يمكن أن يدّعى بناء العقلاء على إلغاء احتمال الخلاف و الخطأ مع هذه الاختلافات الكثيرة المشاهدة من الفقهاء بل من فقيه واحد في كتبه العديدة بل في كتاب واحد. و لهذا لا يبعد أن يكون رجوع

______________________________

(1)- من هنا إلى آخر الكتاب عين عبارات سيّدنا الاستاذ دام بقاءه في رسالته الموضوعة في هذا الباب فلا تغفل. [المقرّر حفظه اللّٰه].

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 448

العامّي إلى الفقيه إمّا لتوهّم كون فنّ الفقه- كسائر الفنون- يقلّ الخطأ فيه و كان رجوع المقلّد لمقدّمة باطلة و توهّم خطأ، أو لأمر تعبّدي أخذه

الخلف عن السلف، لا لأمر عقلائي و هو أمر آخر غير بناء العقلاء.

و دعوى قلّة خطأ العلماء بالنسبة إلى صوابهم بحيث يكون احتماله ملغى- و إن كثر- بعد ضمّ الموارد بعضها إلى بعض غير وجيهة، مع ما نرى من الاختلافات الكثيرة في كلّ باب إلى ما شاء اللّٰه.

و قد يقال: إنّ المطلوب للعقلاء في باب الاحتجاجات بين الموالي و العبيد قيام الحجّة و سقوط التكليف و العقاب بأيّ وجه اتّفق، و الرجوع إلى الفقهاء موجب لذلك، لأنّ المجتهدين مع اختلافهم في الرأي مشتركون في عدم الخطأ و التقصير في الاجتهاد، و لا ينافي ذلك الاختلاف في الرأي، لإمكان عثور أحدهما على حجّة في غير مظانّها، أو أصل من الاصول المعتمدة و لم يعثر عليهما الآخر مع فحصه بالمقدار المتعارف، فتمسّك بالأصل العملي أو عمل على الأمارة التي عنده، فلا يكون واحد منهما مخطئاً في اجتهاده، و رأي كلّ منهما حجّة في حقّه و حقّ غيره، فرجوع العقلاء إليهما لأجل قيام الحجّة و العذر، و هما المطلوب لهم لا إصابة الواقع الأوّلي.

و أوضح من ذلك ما لو قلنا بجعل المماثل في مؤدّى الأمارة.

و فيه أوّلًا: أنّ تسمية ذلك «عدم الخطأ» في غير محلّه. نعم لا يكون ذلك تقصيراً و إن كان مخطئاً، و مع اختلافهما لا محالة يعلم بخطإ أحدهما، و معه لا يكون البناء على الرجوع إذا كان الاختلاف كثيراً و لو في غير مورد اختلافهما، للاعتداد باحتمال الخطأ حينئذٍ.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 449

و ثانياً: أنّه لو سلّم أنّ نظر العقلاء في مثل المقام إلى تحصيل الحجّة و العذر، لكنّهما متوقّفان على إلغاء احتمال خطأ الاجتهاد بالنسبة إلى التكاليف الواقعية الأولية،

و هو في المقام ممنوع، و مؤدّى الطرق لو فرض باطلًا كونه حكماً ثانوياً لا يوجب معذوريته بالنسبة إلى الواقعيات إلّا للمعذور و هو المجتهد، لا للمقلّد الذي يكون مبنى عمله فتواه، و هو ليس معذّراً إلّا مع كونه كسائر الأمارات العقلائية قليل الخطأ لدى العقلاء، و الفرض أنّ كلّ مجتهد يحكم بخطإ أخيه لا بتقصيره، و معه كيف يمكن حجّية الفتوى.

نعم يمكن أن يقال: إنّ الأمر الثاني من الأمرين المتقدّمين يدفع الإشكال، فإنّ عدم ردع هذا البناء الخارجي دليل على رضاء الشارع المقدس بالعمل على فتاوى الفقهاء مع الاختلاف المشهور.

لكن في صيرورة ذلك هو البناء العقلائي المعروف و البناء على أماريّة الفتوى كسائر الأمارات إشكالًا، إلّا أن يقال؛ إنّ بناء المتشرّعة على أخذ الفتوى طريقاً إلى الواقع، و العمل على طبق الأماريّة و السكوت عنه دليل على الارتضاء بذلك، و هو ملازم لجعل الأماريّة له، و المسألة تحتاج إلى مزيد تأمّل.

ثمّ إنّه بناءً على أنّ المناط في رجوع الجاهل إلى العالم هو إلغاء احتمال الخلاف و الخطأ بحيث يكون احتماله موهوماً لا يعتنى به العقلاء لا إشكال في أنّ هذا المناط موجود عندهم في تشخيصات أهل الخبرة و أصحاب الفنون، كان الأفضل موجوداً أو لا، و لهذا يعملون على قوله مع عدم وجود الأفضل، و هذا دليل قطعي على تحقّق مناط العمل عندهم في قول الفاضل، و إلّا فكيف يعقل العمل مع عدم المناط، فيكون المناط موجوداً كان الأفضل موجوداً أولا، اختلف

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 450

رأيهما أو لا. فلو فرض تقديمهم قول الأفضل عند الاختلاف فإنّما هو من باب ترجيح إحدى الحجّتين على الاخرى، لا من باب عدم الملاك

في قول المفضول، لعدم تعقّل تحقّق المناط مع عدم الفاضل و عدمه مع وجوده، فقول المفضول حجّة و أمارة عقلائيّة في نفسه، لأجل موهوميّة احتمال الخطأ، كما أنّ مناط العمل بقول الأفضل ذلك بعينه.

هل ترجيح قول الأفضل عند العقلاء لزومي أم لا؟

نعم يبقى في المقام أمر، و هو أنّه هل بناء العقلاء على ترجيح قول الأفضل لدى العلم بمخالفته مع غيره إجمالًا أو تفصيلًا يكون بنحو الإلزام، أو من باب حسن الاحتياط و ليس بنحو اللزوم؟

لا يبعد الاحتمال الثاني، لوجود تمام الملاك في كليهما، و احتمال أقربيّة قول الأعلم- على فرض صحّته- لم يكن بمثابة ترى العقلاء ترجيحه عليه لزوميّاً، و لهذا تراهم يراجعون إلى المفضول بمجرّد أعذار غير وجيهة كبعد الطريق و كثرة المراجعين، و مشقّة الرجوع إليه و لو كانت قليلة، و أمثال ذلك ممّا يعلم أنّه لو حكم العقل إلزاماً بالترجيح لما تكون تلك الأعذار وجيهة لدى العقل و العقلاء.

هذا مع علمهم إجمالًا بمخالفة أصحاب الفنّ في الرأي في الجملة، فليس ترجيح الأفضل إلّا ترجيحاً غير ملزم و احتياطاً حسناً، و لهذا لو أمكن لأحد تحصيل اجتماع أصحاب فنّ في أمر و الاستفتاء منهم لَفَعَل، لا لأجل عدم الاعتناء بقول الأفضل أو الفاضل، بل للاحتياط الراجح الحسن.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 451

و بالجملة: المناط كلّ المناط في رجوعهم هو اعتقادهم بندرة الخطأ و إلغاء احتمال الخلاف، و هو موجود في كليهما.

فحينئذٍ مع تعارض قولهما مقتضى القاعدة تساقطهما و الرجوع إلى الاحتياط مع الإمكان، و إلّا فالتخيير و إن كان ترجيح قول الأفضل حسناً على أيّ حال، تأمّل.

هذا، و لكن مع ذلك فالذهاب إلى معارضة قول المفضول قول الأفضل مشكل، خصوصاً في مثل ما نحن فيه- أي

باب الاحتجاج بين العبيد و الموالي- مع كون المقام من دوران الأمر بين التعيين و التخيير، و الأصل يقتضي التعيين، فالقول بلزوم تقديم قول الأفضل لعلّه أوجه، مع أنّ الأصحاب أرسلوه إرسال المسلمات و الضروريات «1»، مضافاً إلى عدم إحراز بناء العقلاء على العمل بقول المفضول مع العلم التفصيلي بل الإجمالي المنجّز بمخالفته مع الفاضل لو لم يعلم بإحراز عدمه. نعم لا يبعد ذلك مع العلم بأنّ في أقوالهم اختلافاً، لا مع العلم إجمالًا بأنّ في هذا المورد أو مورد آخر مثلًا مختلفون.

و بعبارة اخرى: إنّ بنائهم على العمل في مورد العلم الإجمالي الغير المنجّز نظير أطراف الشبهة الغير المحصورة، هذا حال بناء العقلاء.

و أمّا حال الأدلّة الشرعيّة فلا بدّ من ذكر ما تشبّث به الطرفان و البحث في أطرافهما.

______________________________

(1)- راجع مفاتيح الاصول: 626/ السطر 12، مطارح الأنظار: 298/ السطر 20.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 452

أدلّة جواز الرجوع إلى المفضول

اشارة

أمّا ما يمكن أن يتمسّك به لجواز الرجوع إلى المفضول مع وجود الأفضل، بل و مخالفة رأيهما امور:

الأوّل: بعض الآيات الشريفة

منها: قوله تعالى في سورة الأنبياء: «وَ مٰا أَرْسَلْنٰا قَبْلَكَ إِلّٰا رِجٰالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ» «1» بدعوى أنّ إطلاقه يقتضي جواز الرجوع إلى المفضول حتّى مع مخالفة قوله للأفضل، سيّما مع ندرة التساوي بين العلماء و توافقهم في الآراء.

و فيه- مضافاً إلى ظهور الآية في أنّ أهل الذكر هم علماء اليهود و النصارى و إرجاع المشركين إليهم، و إلى ورود روايات كثيرة في أنّ أهل الذكر هم الأئمّة «2» بحيث يظهر منها أنّهم أهله لا غير- أنّ الشبهة كانت في اصول العقائد التي يجب فيها تحصيل العلم، فيكون المراد: «اسألوا أهل الذكر حتّى يحصل لكم العلم إن كنتم لا تعلمون» و معلوم أنّ السؤال عن واحد منهم لا يوجب العلم، ففي الآية إهمال من هذه الجهة، فيكون المراد أنّ طريق تحصيل العلم لكم هو الرجوع إلى أهل الذكر، كما يقال للمريض: إنّ طريق استرجاع الصحّة

______________________________

(1)- الأنبياء (21): 7.

(2)- راجع الكافي 1: 210.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 453

هو الرجوع إلى الطبيب و شرب الدواء، فليس لها إطلاق يقتضي الرجوع إلى الفاضل أو المفضول مع تعارض قولهما.

و لا يبعد أن يقال: إنّ الآية بصدد إرجاعهم إلى أمر ارتكازي هو الرجوع إلى العالم، و لا تكون بصدد تحميل تعبّدي و إيجاب مولوي.

و منها: آية النفر «وَ مٰا كٰانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لٰا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» «1»

. و الاستدلال بها للمطلوب يتوقّف على امور:

منها: استفادة وجوب

النفر منها.

و منها: كون التفقّه غاية له.

و منها: كون الإنذار من جنس ما يتفقّه فيه.

و منها: انحصار التفقّه بالفرعيّات.

و منها: كون المنذر- بالكسر- كلّ واحد من النافرين.

و منها: كون المنذَر- بالفتح- كلّ واحد من الطائفة الباقية.

و منها: كون التحذر عبارة عن العمل بقول المنذر.

و منها: وجوب العمل بقوله، حصل العلم منه أو لا، خالف قول غيره أو لا.

فيصير مفاد الآية بعد تسليم المقدّمات: «يجب على كلّ واحد من كلّ طائفة من كلّ فرقة النفر لتحصيل الفروع العمليّة، ليبيّنها لكلّ واحد من الباقين، ليعمل المنذر بقوله، حصل العلم منه أو لا، و خالف قول غيره أو لا».

______________________________

(1)- التوبة (9): 122.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 454

و أنت خبير بعدم سلامة جميع المقدّمات لو سلم بعضها، فلك أن تمنع كون التفقّه غاية النفر بأن يقال: إنّ قوله: «وَ مٰا كٰانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً» يحتمل أن يكون إخباراً في مقام الإنشاء، أي ليس لهم النفر العمومي، كما ورد أنّ القوم كانوا ينفرون كافّة للجهاد و بقي رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم وحده، فورد النهي عن النفر العمومي و الأمر بنفر طائفة للجهاد.

فحينئذٍ لا يكون التفقّه غاية للنفر إذا كان التفقه لغير النافرين؛ أي الباقين. لكن الإنصاف أنّ ذلك خلاف ظاهرها، بل ظاهرها أنّ المؤمنين بحسب اشتغالهم بأُمور المعاش و نظم الدنيا ما كانوا لينفروا جميعاً، أي النفر العمومي ليس ميسوراً لهم، و لولا نفر من كلّ فرقة طائفة منهم للتفقّه؟ و لا إشكال في أنّ الظاهر منه مع قطع النظر عن قول المفسّرين هو كون التفقّه غاية له.

و أمّا كون الإنذار من سنخ ما يتفقّه فيه؛ أي بيان الأحكام بنحو الإنذار فليست

الآية ظاهرة فيه، بل الظاهر منها أنّ غاية النفر أمران:

أحدهما: التفقّه في الدين و فهم الأحكام الدينيّة.

و الآخر: إنذار القوم و موعظتهم. فيكون المراد: يجب على الفقيه إنذار القوم و إيجاد الخوف من بأس اللّٰه في قلوبهم، فإذا خافوا يحكم عقلهم بوجوب تحصيل المؤمِّن، فلا محيص لهم إلّا العلم بالأحكام مقدّمة للعمل بها، و أمّا وجوب العمل بقول المنذر فلا تدلّ الآية عليه.

و دعوى أنّ الإنذار لا بدّ و أن يكون من جنس ما يتفقّه فيه، و إلّا فأيّة مناسبة للفقيه معه، ممنوعة، لأنّ الإنذار مناسب للفقيه، لأنّه يعلم حدوده و كيفيّته و شرائط الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، مع أنّ لكلامه تأثيراً في القوم ما لا يكون لكلام غيره، لعلوّ مقامه و عظم شأنه لديهم، و أمّا التفقّه في

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 455

الدين فهو أعمّ من الاصول و الفروع، فلا وجه لاختصاصه بالثاني، و الأخبار الواردة في تفسيرها تدلّ على تعميمه. فحينئذٍ لا يمكن أن يقال بوجوب قبول قوله تعبّداً، لعدم جريانه في الاصول.

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ إطلاقها على فرضه يقتضي قبول قول الغير في الاصول و الفروع و يقيّد إطلاقها عقلًا في الاصول و تبقى الفروع.

و أمّا كون المنذر- بالكسر- كلّ واحد من الطائفة فلا إشكال في ظهور الآية فيه، لكنّ الظاهر منها أنّ كل واحد من المنذرين يجب عليه إنذار القوم جميعاً، و معه لا تدلّ الآية على وجوب القبول من كلّ واحد منهم، فإنّه بإنذار كلّ واحد منهم قومهم ربّما يحصل لهم العلم.

و أمّا كون التحذّر بمعنى التحذّر العملي أي قبول قول الغير و العمل به فهو خلاف ظاهرها، بل التحذّر إمّا بمعنى الخوف،

و إمّا بمعنى الاحتراز و هو الترك عن خوف، و الظاهر أنّه بمعنى الخوف الحاصل عن إنذار المنذرين، و هو أمر غير اختياري لا يمكن أن يتعلّق بعنوانه الأمر، نعم يمكن تحصيله بمقدّمات اختياريّة كالحبّ و البغض و أمثالهم، هذا كلّه مع أنّه لا إطلاق للآية، ضرورة أنّها بصدد بيان كيفيّة النفر و أنّه إذن لا يمكن للناس نفر عمومي، فلِمَ لا ينفر طائفة منهم، فإنّه ميسور لهم؟!

و بالجملة: لا يجوز للناس سدّ باب التفقّه و التعلّم بعذر الاشتغال بأُمور الدنيا؛ فإنّ أمر الدين كسائر امورهم يمكن قيام طائفة به، فلا بدّ من التفقّه و الإنذار، و أمّا وجوب قبول السامع بمجرّد السماع فلا إطلاق للآية يدلّ عليه، فضلًا عن إطلاقها لحال التعارض.

و الإنصاف: أنّ الآية أجنبيّة عن حجّية قول المفتي، كما أنّها أجنبيّة عن

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 456

حجّية قول المخبر، بل مفادها- و العلم عند اللّٰه- أنّه يجب على طائفة من كلّ فرقة أن يتفقّهوا في الدين و يرجعوا إلى قومهم و ينذروهم بالمواعظ و الإنذارات و البيانات الموجبة لحصول الخوف في قلوبهم لعلّهم يحذرون، و يحصل في قلوبهم الخوف قهراً، فإذا حصل الخوف في قلوبهم يدور رحى الديانة و يقوم الناس بأمرها قهراً لسوقهم عقلهم نحو القيام بالوظائف.

هذا حالها مع قطع النظر عن الروايات الواردة في تفسيرها، و مع النظر إليها أيضاً لا تدلّ على المطلوب.

لأنّ منها: ما تدلّ على أنّ الإمام إذا مات لم يكن للناس عذر في عدم معرفة الإمام الذي بعده، أمّا من في البلد فلرفع حجّته، و أمّا غير الحاضر فعليه النفر إذا بلغه «1»

. و منها: ما دلّ على أنّ تكليف الناس بعد

الإمام الطلب و أنّ النافرين في عذر ما داموا في الطلب، و المنتظرين في عذر حتّى يرجع إليهم أصحابهم «2». و معلوم أنّ قول النافرين بمجرّده ليس بحجّة في باب الإمامة.

و منها: ما وردت في علّة الحجّ، و فيها: «و لأجل ما فيه من التفقّه و نقل أخبار الأئمّة إلى كلّ صقع و ناحية» «3»

. و منها: ما دلّ على أنّه تعالى أمرهم أن ينفروا إلى رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم

______________________________

(1)- راجع الكافي 1: 378/ 2 و 3.

(2)- راجع الكافي 1: 378/ 1.

(3)- راجع وسائل الشيعة 27: 96، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 8، الحديث 65.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 457

فيتعلّموا، ثمّ يرجعوا إليهم فيعلّموهم، و هو معنى قوله صلى الله عليه و آله و سلم:

«اختلاف امّتي رحمة»

«1». و هذه الطائفة أيضاً لا تدلّ على وجوب القبول بمجرّد السماع فضلًا عن حال التعارض، هذا حال الآيات الشريفة و الآيات الاخرى التي استدلّ بها أضعف دلالة منها.

الثاني: الأخبار التي استدلّ بها على حجّية قول المفضول

و أمّا الأخبار فمنها:

ما عن تفسير الإمام عليه السلام في ذيل قوله تعالى:

«وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لٰا يَعْلَمُونَ الْكِتٰابَ إِلّٰا أَمٰانِيَّ وَ إِنْ هُمْ إِلّٰا يَظُنُّونَ» «2» و الحديث طويل و فيه: «و أمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه»

«3». دلّ بإطلاقه على جواز تقليد المفضول إذا وجد فيه الشرائط و لو مع وجود الأفضل أو مخالفته له في الرأي.

لكنّه- مع ضعف سنده و إمكان أن يقال إنّه في مقام بيان حكم آخر، فلا إطلاق له لحال وجود الأفضل فضلًا عن صورة العلم بمخالفة رأيه رأي الأفضل- مخدوش من حيث

الدلالة، لأنّ صدره في بيان تقليد عوام اليهود من

______________________________

(1)- راجع وسائل الشيعة 27: 140، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 10.

(2)- البقرة (2): 78.

(3)- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السلام: 299، وسائل الشيعة 27: 131، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 10، الحديث 20.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 458

علمائهم في الاصول،

حيث قال: « «وَ إِنْ هُمْ إِلّٰا يَظُنُّونَ» ما تقول رؤساؤهم من تكذيب محمّد صلى الله عليه و آله و سلم في نبوّته و إمامة علي سيّد عترته، وهم يقلّدونهم مع أنّه محرّم عليهم تقليدهم».

ثمّ بعد ما سأل الرجل عن الفرق بين عوامنا و عوامهم حيث كانوا مقلّدين؟

أجاب بما حاصله: إنّ عوامهم مع علمهم بفسق علمائهم و كذبهم و أكلهم الحرام و الرشا و تغييرهم أحكام اللّٰه يقلّدونهم، مع أنّ عقلهم يمنعهم عنه، و لو كان عوامهم [عوامنا] كذلك لكانوا مثلهم ثمّ قال:

«و أمّا من كان من الفقهاء ...»

إلى آخره.

فيظهر منه أنّ الذمّ لم يكن متوجّهاً إلى تقليدهم في اصول العقائد كالنبوّة و الإمامة، بل متوجّه إلى تقليد فسّاق العلماء، و أنّ عوامنا لو قلّدوا علمائهم فيما قلَّد اليهود علمائهم لا بأس به إذا كانوا صائنين لأنفسهم حافظين لدينهم ... إلى آخره. فإخراج الاصول منه إخراج للمورد و هو مستهجن.

فلا بدّ من توجيه الرواية بوجه أو ردّ علمها إلى أهلها. و أمّا حملها على حصول العلم من قول العلماء للعوام لحسن ظنّهم به و عدم انقداح خلاف الواقع من قولهم، بل يكون قول العلماء لديهم صراح الواقع و عين الحقيقة، فبعيد بل غير ممكن، لتصريحها بأنّهم لم يكونوا إلّا ظانّين بقول رؤسائهم و أنّ عقلهم كان يحكم بعدم

جواز تقليد الفاسق، مع أنّه لو حصل العلم من قولهم لليهود لم يتوجّه إليهم ذمّ بل لم يسمّ ذلك تقليداً.

و بالجملة: سوق الرواية إنّما هو في التقليد الظنّي الذي يمكن ردع قسم منه و الأمر بالعمل بقسم منه، و الالتزام بجواز التقليد في الاصول أو في بعضها كما ترى، فالرواية مع ضعفها سنداً و اغتشاشها متناً لا تصلح للحجّية، و لكن

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 459

يستفاد منها مع ضعف سندها أمر تاريخي يؤيّد ما نحن بصدده، و هو أنّ التقليد بهذا المفهوم الذي في زماننا كان شائعاً من زمن قديم هو زمان الأئمّة، أو قريب منه؛ أي من زمان تدوين «تفسير الإمام» أو من قبله بزمان طويل.

و منها: إطلاق صدر مقبولة عمر بن حنظلة «1» و إطلاق مشهورة أبي خديجة «2». و تقريب الدلالة أن يقال: إنّ الظاهر من صدرها و ذيلها شمولها للشبهات الحكميّة، فيؤخذ بإطلاقها في غير مورد واحد متعرّض له و هو صورة اختلاف الحَكَمين، و كذا المشهورة تشملها بإطلاقها، فإذا دلّتا على نفوذ حكم الفقيه فيها، تدلّان على اعتبار فتواه في باب فصل الخصومات، و إلّا فلا يعقل إنفاذه بدونه، و يفهم نفوذ فتواه و حجّيته في غيره إمّا بإلغاء الخصوصية عرفاً، أو بدعوى تنقيح المناط.

أو يقال: إنّ الظاهر من قوله:

«فإذا حكم بحكمنا»

. إلغاء احتمال الخلاف من فتوى الفقيه، إذ ليس المراد منه «أنّه إذا علمتم أنّه حكم بحكمنا»، بل المراد «أنّه إذا حكم بحكمنا بحسب نظره و رأيه» فجعل نظره طريقاً إلى حكمهم، هذا.

و لكن يرد عليه: أنّ إلغاء الخصوصيّة عرفاً ممنوع، ضرورة تحقّق خصوصيّة زائدة في باب الحكومة ربّما تكون بنظر العرف دخيلة فيها و

هي رفع

______________________________

(1)- الكافي 1: 67/ 10، وسائل الشيعة 27: 136، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.

(2)- تهذيب الأحكام 6: 303/ 846، وسائل الشيعة 27: 139، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 6.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 460

الخصومة بين المتخاصمين، و هو لا يمكن نوعاً إلّا بحكم الحاكم النافذ، و هذا أمر مرغوب فيه لا يمكن فيه الاحتياط و لا يتّفق فيه المصالحة نوعاً، و أمّا العمل بقول الفقيه فربّما لا يكون مطلوباً و يكون المطلوب درك الواقع بالاحتياط أو الأخذ بأحوط الأقوال مع تعذّر الاحتياط التامّ.

فدعوى أنّ العرف يفهم من المقبولة و أمثالها حجّية الفتوى لا تخلو من مجازفة، و أوضح فساداً من ذلك دعوى تنقيح المناط القطعي.

و أمّا قوله:

«إذا حكم بحكمنا»

لو سلّم إشعاره بإلغاء احتمال الخلاف فإنّما هو في باب الحكومة، فلا بدّ للسراية إلى باب الفتوى من دليل و هو مفقود، فالإنصاف عدم جواز التمسّك بأمثال المقبولة للتقليد رأساً، و كما لا يجوز التمسّك بصدرها على جواز تقليد المفضول لا يجوز ببعض فقرات ذيلها على وجوب تقليد الأعلم لدى مخالفة قوله مع غيره.

و منها؛ إطلاق ما في التوقيع: «

و أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فانّهم حجّتي عليكم و أنا حجّة اللّٰه»

«1». و تقريبه: أنّ «الحوادث» أعمّ من الشبهات الحكميّة، و الرجوع إلى رواة الحديث ظاهر في أخذ فتواهم لا أخذ نفس الرواية، و رواة الحديث كانوا من أهل الفتوى و الرأي، كما أنّ قوله:

«فإنّهم حجّتي عليكم»

، يدلّ على أنّ فتوى رواة الحديث حجّة، كما أنّ فتوى الإمام حجّة، فلا معنى لحجّية رواة الحديث إلّا حجيّة فتاويهم و أقوالهم، و الحمل

على حجّية الأحاديث المنقولة بتوسّطهم خلاف الظاهر.

______________________________

(1)- كمال الدين: 484/ 4، وسائل الشيعة 27: 140، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 9.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 461

و فيه: بعد ضعف التوقيع سنداً أنّ صدره غير منقول إلينا، و لعلّه كان مكتنفاً بقرائن لا يفهم منها إلّا حجّية حكمهم في الشبهات الموضوعيّة أو الأعمّ، و كان الإرجاع في القضاء لا في الفتوى.

و منها:

ما عن الكشي بسند ضعيف عن أحمد بن حاتم بن ماهويه قال:

كتبت إليه- يعني أبا الحسن الثالث عليه السلام- أسأله: عمّن آخذ معا لم ديني، و كتب أخوه أيضاً بذلك، فكتب إليهما: «فهمت ما ذكرتما فاصمدا في دينكما على كلّ مسنّ في حبّنا و كلّ كثير القدم في أمرنا، فإنّهما كافوكما إن شاء اللّٰه تعالى»

«1». و فيه: بعد ضعف السند أنّ الظاهر من سؤاله أنّ الرجوع إلى العالم كان مرتكزاً في ذهنه، و إنّما أراد تعيين الإمام شخصه، فلا يستفاد منه التعبّد، كما أنّ الأمر كذلك في كثير من الروايات، بل قاطبتها على الظاهر.

و منها: روايات كثيرة عن الكشي و غيره، فيها الصحيح و غيره تدلّ على إرجاع الأئمة إلى أشخاص من فقهاء أصحابهم، يظهر منها أنّ الرجوع إليهم كان متعارفاً، و مع وجود الأفقه كانوا يرجعون إلى غيره،

كصحيحة ابن أبي يعفور قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: إنّه ليس كلّ ساعة ألقاك و لا يمكن القدوم، و يجي ء الرجل من أصحابنا فيسألني و ليس عندي كلّ ما يسألني عنه، فقال: «ما يمنعك من محمّد بن مسلم الثقفي، فإنّه سمع من أبي و كان عنده وجيهاً»

«2».

______________________________

(1)- اختيار معرفة الرجال: 4/ 7، وسائل الشيعة 27: 151، كتاب القضاء، أبواب

صفات القاضي، الباب 11، الحديث 45.

(2)- اختيار معرفة الرجال: 161/ 273، وسائل الشيعة 27: 144، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 23.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 462

و كرواية علي بن المسيّب «1»، حيث أرجعه الرضا عليه السلام إلى زكريّا بن آدم، إلى غير ذلك.

و يستفاد منها أنّ أخذ معا لم الدين الذي هو عبارة اخرى عن التقليد كان مرتكزاً في ذهنهم و متعارفاً في عصرهم، و يستفاد من صحيحة ابن أبي يعفور تعارف رجوع الشيعة إلى الفقهاء من أصحاب الأئمّة مع وجود الأفقه بينهم، و جواز رجوع الفقيه إلى الأفقه إذا لم يكن له طريق إلى الواقع.

و هذا ليس منافياً لما ذكرنا في أوّل الرسالة من أنّ موضوع عدم جواز الرجوع إلى الغير نفس قوّة الاستنباط، و ذلك لأنّ ما ذكرنا هناك إنّما هو فيمن له طريق إلى الاستنباط مثل زماننا، فإنّ الكتب الراجعة إليه مدوّنة مكتوبة بين أيدينا، بخلاف ما إذا لم يمكن كذلك، كعصر محمّد بن مسلم، حيث إنّ الأحاديث فيه كانت مضبوطة عنده و عند نظرائه، و لم يكن للجاهل طريق إليها إلّا بالرجوع إليهم، مع إمكان أن يقال: إنّ إرجاع مثل ابن أبي يعفور إنّما هو في سماع الحديث ثمّ استنباطه منه حسب اجتهاده، و لا إشكال في استفادة جواز الرجوع إلى الفقهاء- بل إلى الفقيه مع الأفقه- من تلك الروايات. لكن استفادة ذلك مع العلم الإجمالي أو التفصيلي بمخالفة آرائهما مشكلة، لعدم العلم بذلك في تلك الأعصار، خصوصاً من مثل اولئك الفقهاء و المحدّثين الذين كانوا من بطانة الأئمّة فالاتّكال على مثل تلك الأدلّة في جواز تقليد المفضول مشكل، بل غير ممكن.

______________________________

(1)- اختيار معرفة الرجال:

594/ 1112، وسائل الشيعة 27: 146، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 27.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 463

فيما استدلّ به على ترجيح قول الأفضل

و استدلّ على ترجيح قول الأفضل مع العلم بالمخالفة تارة: بالإجماعات المنقولة، و هو كما ترى في مثل المسألة العقليّة مع تراكم الأدلّة.

و اخرى: بالأخبار كالمقبولة و غيرها، بأن يقال: إنّ الشبهة فرضت حكميّة في المقبولة، فنفوذ حكمه تعينيّاً ملازم لنفوذ فتواه كذلك في تلك المسألة، فتعدّى إلى غيرها بإلغاء الخصوصية أو القطع بالملاك سيّما مع تناسب الأفقهيّة و الأصدقيّة في الحديث لذلك.

و فيه:- مضافاً إلى أنّ ظاهر المقبولة أنّ الأوصاف الأربع مجتمعة توجب التقديم بمقتضى العطف بالواو، و فرض الراوي صورة التساوي لا يكشف عن كون المراد وجود أحدها- بمنع التلازم هاهنا، لأنّ الملازمة إنّما تكون في صورة إثبات النفوذ لا سلبه، لأنّ سلب المركّب أو ما بحكمه بسلب أحد أجزائه، فسلب نفوذ حكمه كما يمكن أن يكون لسلب حجّية فتواه، يمكن أن يكون لسلب صلاحيّة حكمه للفصل، و عدم جواز الأخذ بالفتوى في المقام ليس لعدم صلاحيته للحجّية، بل لعدم كونه فاصلًا، بل فتوى الأعلم أيضاً ليس بفاصل، و التناسب بين الأفقهيّة و ذلك لم يصل إلى حدّ كشف العلّية التامّة.

هذا كلّه مع أنّ إلغاء الخصوصيّة عرفاً أو القطع بالملاك ممّا لا وجه لهما بعد وضوح الفرق بين المقامين، و لعلّ الشارع لاحظ جانب الاحتياط في حقوق الناس، فجعل حكم الأعلم فاصلًا لأقربيّة الواقع بنظره، و لم يلاحظه في

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 464

أحكامه توسعة على الناس، فدعوى إلغاء الخصوصية مجازفة، و دعوى القطع أشدّ مجازفة.

و ثالثة: بأنّ فتوى الأعلم أقرب إلى الصواب، لأنّ نظره طريق

محض إلى الواقع سواء الأوّليات منه، أو الثانويات، أو الأعذار الشرعيّة و العقليّة، فحينئذٍ تلازم الأعلميّة للأقربية و هو المتعيّن في مقام الإسقاط و الأعذار، و جواز الرجوع إلى غيره يساوق الموضوعيّة.

و الجواب عن الصغرى: بمنع كلّيتها، لأنّ رأي غير الأعلم قد يوافق رأي الأعلم من الأموات أو الأحياء إذا لم يجز تقليدهم لجهة، بل إذا كان رأي غير الأعلم موافقاً لجميع الفقهاء و يكون الأعلم منفرداً في الأحياء في الفتوى مع كون مخالفيه كثيراً جدّاً.

و تنظّر بعض أهل النظر في الصغرى بأنّ حجّية الفتوى لأجل كونه من الظنون الخاصة لا المطلقة، فمطابقة قول غير الأعلم للأعلم الغير الصالح للحجّية غير مفيدة.

فلا عبرة بقوّته و لا أصله كالظنّ من الأمارات الغير المعتبرة، و الأقوائيّة بمطابقة قوله لسائر المجتهدين الذين مثله فغير مسلّم، إذ المطابقة لوحدة الملاك و تقارب الأنظار، فالكلّ في قوّة نظر واحد، و لا يكشف توافق آرائهم عن قوّة مدركهم، و إلّا لزم الخلف، لفرض أقوائيّة نظر الأعلم.

و منه يعلم فساد قياسها بالخبرين المتعارضين المحكي أحدهما بطرق متعدّدة، إذ ليست الحكايات المتعددة بمنزلة حكاية واحدة، فلا محالة يوجب كلّ حكاية ظنّاً بصدور شخص هذا الكلام من غير لزوم الخلف «1»، انتهى.

______________________________

(1)- نهاية الدراية 6: 412- 413.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 465

و فيه ما لا يخفى؛ إذ المنظور في ردّ الصغرى إنكار كلّية دعوى أقربيّة قول الأعلم، لا دعوى تقدّم قول غير الأعلم في مقام الاحتجاج، فما ذكره أجنبي عن المقام، بل المناقشة فيه منحصرة بإنكار الأقربيّة، و هو مسقط لأصل دعواه في الصغرى، إذا إنكاره مساوق لإنكار أقربيّة فتوى الأعلم.

و أمّا إنكار الأقربيّة في المثال الأخير فغير وجيه، لأنّ أنظار

المجتهدين كما كانت طريقاً إلى الواقعيّات و الحجج فلا محالة إذا اجتمع جلّ أهل الفنّ على خطأ الأعلم لا يبقى وثوق بأقربيّة قوله لو لم نقل بالوثوق على الخلاف. و إن شئت قلت: لا تجري أصالة عدم الغفلة و الخطأ في اجتهاده، و توهّم كون أنظارهم بمنزلة نظر واحد كتوهّم لزوم الخلف في غاية السقوط.

و عن الكبرى: بأنّ تعيّن الرجوع إلى الأقرب إن كان لأجل إدراك العقل تعيّنه جزماً- بحيث لا يمكن للشارع التعبّد بخلافه، و لو ورد دليل صريح على خلافه لا بدّ من طرحه- فهو فاسد، لأنّ الشارع إذا رأى مفسدة في تعيّن الرجوع إلى الأعلم أو مصلحة في التوسعة على المكلّف فلا محالة يرخّص ذلك من غير الشبهة الموضوعية كتجويز العمل بخبر الثقة و ترك الاحتياط.

نعم لو علمنا وجداناً بأنّ الشارع لا يرضى بترك الواقعيات فلا يمكن معه احتمال تجويز العمل بقول العالم و لا بقول الأعلم، بل يحكم العقل بوجوب الاحتياط و لو مع اختلال النظام فضلًا عن لزوم الجرح، لكنّه خلاف الواقع و خلاف المفروض في المقام، و لهذا لا أظنّ بأحد ردّ دليل معتبر قام على جواز الرجوع بغير الأعلم، فعليه كيف يمكن دعوى القطع بلزوم تعيّن الأقرب مع احتمال تعبّد في المقام و لو ضعيفاً؟!

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 466

و ممّا ذكرنا يظهر النظر في كلام بعض أهل النظر، حيث قال ما ملخّصه: إنّ القرب إلى الواقع إن لم يلحظ أصلًا فهو مناف للطريقيّة و إن كان بعض الملاك، و هناك خصوصيّة اخرى تعبّديّة فهو غير ضائر بالمقصود، لأنّ فتوى الأعلم حينئذٍ مساوٍ لغيره في جميع الخصوصيّات، و يزيد عليه بالقرب، سواء كانت تلك الخصوصيّة

التعبّديّة جزء المقتضى أو شرط جعله أمارة، فيكون فتوى الأعلم متعيّناً لترجيحه على غيره بالملاك الذي هو ملاك الحجّية، و لهذا قياسه على البصر و الكتابة مع الفارق، لكونهما غير دخيلين في ذلك الملاك، لأنّ معنى الأعلميّة ليس الأقوائيّة بحسب المعرفة بحيث لا تزول بتشكيك حتّى يقاس عليهما، بل بمعنى أحسنيّة الاستنباط و أجوديّته في تحصيل الحكم من المدارك، فيكون أكثر إحاطة بالجهات الدخيلة فيه المغفولة عن نظر غيره، فمرجع التسوية بينهما إلى التسوية بين العالم و الجاهل، و هذا وجه آخر لتعيّن الأعلم و لو لم نقل بأقربية رأيه أو كون الأقربيّة ملاك التقديم، لأنّ العقل يذعن بأنّ رأيه أوفق بمقتضيات الحجج، و هو المتعيّن في مقام إبراء الذمّة، و يذعن بأنّ التسوية بينهما كالتسوية بين العالم و الجاهل «1»، انتهى.

و فيه مواقع للنظر:

منها: أنّ الخصوصيّة التعبّدية لا يلزم أن تكون جزء المقتضى أو شرط التأثير، بل يمكن أن تكون مانعة عن تعيّن الأعلم كالخصوصيّة المانعة عن إلزام الاحتياط الموجبة لجعل الأمارات و الاصول من غير لزوم الموضوعيّة.

______________________________

(1)- نهاية الدراية 6: 413- 414.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 467

و منها: أنّ أحسنيّة الاستنباط و كون الأعلم أقوى نظراً في تحصيل الحكم من المدارك عبارة اخرى عن أقربيّة رأيه إلى الواقع، فلا يخلو كلامه من التناقض و التنافي.

و منها: أنّ إذعان العقل بما ذكره مستلزم لامتناع تجويز العمل على طبق رأي غير الأعلم، لقبح التسوية بين العالم و الجاهل، بل امتناعه و هو كما ترى، و لا أظنّ التزام أحد به.

و التحقيق: أنّ تجويز العمل بقول غيره ليس لأجل التسوية بينهما، بل لمفسدة التضييق أو مصلحة التوسعة و نحوهما ممّا لا ينافي الطريقية

كما قلنا في محلّه «1»، و ليعلم أنّ هذا الدليل الأخير غير أصالة التعيين في دوران الأمر بين التخيير و التعيين و غير بناء العقلاء على تعيّن الأعلم في مورد الاختلاف، فلا تختلط بينه و بينهما و تدبّر جيّداً.

فالإنصاف: أنّه لا دليل على ترجيح قول الأعلم إلّا الأصل بعد ثبوت كون الاحتياط مرغوباً عنه و ثبوت حجّية قول الفقهاء في الجملة، كما أنّ في الأصل أيضاً إشكال، لأنّ فتوى غير الأعلم إذا طابق الأعلم من أعلم من الأموات أو في المثالين المتقدّمين يصير المقام من دوران الأمر بين التخيير و التعيين، لا تعيّن الأعلم، و الأصل فيه التخيير.

إلّا أن يقال: إنّ تعيّن غير الأعلم حتّى في مورد الأمثلة مخالف لتسالم الأصحاب و إجماعهم، فدار الأمر بين التعيين و التخيير في مورد الأمثلة أيضاً، و هو الوجه في بنائنا على الأخذ بقول الأعلم احتياطاً، و أمّا بناء العقلاء

______________________________

(1)- تقدّم في الجزء الأوّل: 417.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 468

فلم يحرز في مورد الأمثلة المتقدّمة.

هذا فيما إذا علم اختلافهما تفصيلًا، بل أو إجمالًا أيضاً بنحو ما مرّ، و أمّا مع احتماله فلا يبعد القول بجواز الأخذ من غيره أيضاً، لإمكان استفادة ذلك من الأخبار، بل لا يبعد دعوى السيرة عليه، هذا كلّه في المتفاضلين.

في حال المجتهدين المتساويين مع اختلاف فتواهما

و أمّا في المتساويين فالقاعدة و إن اقتضت تساقطهما مع التعارض و الرجوع إلى الاحتياط لو أمكن، و إلى غيره من القواعد مع عدمه، لكن الظاهر أنّ الاحتياط مرغوب عنه و أن المسلّم عندهم حجّية قولهما في حال التعارض، فلا بدّ من الأخذ بأحدهما و القول بحجيّته التخييريّة.

و قد يقال بدلالة قوله في مثل رواية أحمد بن حاتم بن ماهويه:

«فاصمدا

في دينكما إلى كلّ مسنٍّ في حبّنا»

«1» و غيرها من الروايات العامّة على المطلوب، فإنّ إطلاقها شامل لحال التعارض، و الفرق بينها و بين أدلّة حجّية خبر الثقة حيث أنكرنا إطلاقها لحال التعارض أنّ الطبيعة في حجّية خبر الثقة اخذت بنحو الوجود الساري، فكلّ فرد من الأخبار مشمول أدلّة الحجّية تعييناً و لا يعقل جعل الحجّية التعيينيّة في المتعارضين، و لا جعل الحجيّة التعيينيّة في غيرهما و التخييريّة فيهما بدليل واحد، فلا مناص إلّا القول بعدم الإطلاق لحال التعارض.

______________________________

(1)- اختيار معرفة الرجال: 4/ 7، وسائل الشيعة 27: 151، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 45.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 469

و أمّا الطبيعة في حجّية قول الفقهاء، اخذت على نحو صِرف الوجود، ضرورة عدم معنى لجعل حجّية قول كلّ عالم بنحو الطبيعة السارية و الوجوب التعييني حتّى يكون المكلّف في كلّ واقعة مأموراً بأخذ قول جميع العلماء، فإنّه واضح البطلان، فالمأمور به هو الوجود الصرف، فإذا اخذ بقول واحد منهم فقد أطاع، فلا مانع حينئذٍ من إطلاق دليل الحجّية لحال التعارض.

فقوله:

«و أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا»

مفاده جعل حجّية قول العالم على نحو البدليّة أو صرف الوجود، كان مخالفاً لقول غيره أو لا، يعلم مخالفته له تفصيلًا أو لا.

هذا ما أفاده شيخنا العلّامة على ما في تقريرات بعض فضلاء بحثه «1»

. و أنت خبير بأنّ هذا بيان لإمكان الإطلاق على فرض وجود دليل مطلق يمكن الاتّكال عليه.

و نحن بعد الفحص الأكيد لم نجد دليلًا يسلم دلالةً و سنداً عن الخدشة، مثلًا قوله في الرواية المتقدّمة:

«فاصمدا في دينكما ...»

إلى آخره، بمناسبة صدرها و هو قوله: «عمّن آخذ معا لم ديني؟»

لا يستفاد منه التعبّد، بل الظاهر منه هو الإرجاع إلى الأمر الارتكازي، فإنّ السائل بعد مفروغيّة جواز الرجوع إلى العلماء سأل عن الشخص الذي يجوز التعويل على قوله. و لعلّه أراد أن يعيّن الإمام شخصاً معيّناً كما عيّن الرضا عليه السلام زكريا بن آدم «2»، و الصادق عليه السلام

______________________________

(1)- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 714- 717.

(2)- وسائل الشيعة 27: 146، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 27.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 470

الأسدي «1» و الثقفي «2» و زرارة «3» فأرجعه إلى من كان كثير القدم في أمرهم و مسنّاً في حبّهم.

و الظاهر من «كثرة القدم في أمرهم» كونه ذا سابقة طويلة في أمر الإمامة و المعرفة، و لم يذكر الفقاهة، لكونها أمراً ارتكازياً معلوماً لدى السائل و المسئول عنه و أشار إلى صفات اخر موجبة للوثوق و الاطمئنان بهم، فلا يستفاد منها إلّا تقرير الأمر الارتكازي.

و لو سلّم كونه بصدد إعمال التعبّد و الإرجاع إلى الفقهاء فلا إشكال في عدم إطلاقها لحال التعارض، بل قوله ذلك كقول القائل: «المريض لا بدّ و أن يرجع إلى الطبيب و ليشرب الدواء» و قوله: «إنّ الجاهل بالتقويم لا بدّ و أن يرجع إلى المقوّم».

و معلوم أنّ أمثال ذلك لا إطلاق لها لحال التعارض هذا مع ضعف سندها، و قد عرفت حال التوقيع «4»، و بالجملة لا إطلاق في الأدلّة بالنسبة إلى حال التعارض.

______________________________

(1)- وسائل الشيعة 27: 142، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 15.

(2)- وسائل الشيعة 27: 144، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 23.

(3)- وسائل الشيعة 27: 143، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 17، 19.

(4)-

تقدّم في الصفحة 460- 461.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 471

الاستدلال على التخيير بين المتساويين بأدلّة العلاج

و قد يتمسّك للتخيير في المتساويين بأدلّة علاج المتعارضين

كموثّقة سماعة عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه، أحدهما يأمر بأخذه، و الآخر ينهاه عنه، كيف يصنع؟

قال: «يرجئه حتّى يلقى من يخبره، فهو في سعة حتّى يلقاه»

«1». تقريبه: أنّ التخالف بينهما لا يتحقّق بصرف نقل الرواية مع عدم الجزم بمضمونها، و معه مساوق للفتوى، فاختلاف الرجلين إنّما هو في الفتوى، و يشهد له قوله: «أحدهما يأمر بأخذه و الآخر ينهاه». و هذا لا ينطبق على صرف الرواية و الحكاية، فلا بدّ من الحمل على الفتوى، فأجاب عليه السلام بأنّه في سعة و مخيّر في الأخذ بأحدهما.

بل يمكن التمسّك بسائر أخبار التخيير في الحديثين المختلفين بإلغاء الخصوصية، فإنّ الفقيه أيضاً يكون فتواه محصّل الأخبار بحسب الجمع و الترجيح، فاختلاف الفتوى يرجع إلى اختلاف الرواية، هذا.

و فيه ما لا يخفى:

أمّا التمسّك بموثّقة سماعة، ففيه أنّ قوله:

«يرجئه حتّى يلقى من يخبره»

معناه: يؤخّره و لا يعمل بواحد منهما، كما صرّح به في روايته الاخرى «2»، و المظنون أنّهما رواية واحدة، و معنى «الإرجاء» لغةً و عرفاً هو

______________________________

(1)- الكافي 1: 66/ 7، وسائل الشيعة 27: 108، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 5.

(2)- وسائل الشيعة 27: 122، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 42.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 472

تأخير الشي ء، فقوله بعد ذلك:

«فهو في سعة»

. ليس معناه أنّه في سعة في الأخذ بأيّهما شاء كما أفاد المستدلّ، بل المراد أنّه في سعة بالنسبة إلى نفس الواقعة،

و محصّله: أنّ الروايتين أو الفتواءين ليستا بحجّة، فلا تعمل بواحدة منهما، و لكنّه في سعة في الواقعة، فله العمل على طبق الاصول، فهي على خلاف المطلوب أدلّ.

و أمّا دعوى إلغاء الخصوصيّة و فهم التخيير من الأخبار الواردة في الخبرين المتعارضين، ففيه: مع الغضّ عن فقدان رواية دالّة على التخيير جامعة للحجّية كما مرّ في باب التعارض، أنّ إلغاء الخصوصيّة عرفاً ممنوع، ضرورة تحقّق الفرق الواضح بين اختلاف الأخبار و اختلاف الآراء الاجتهاديّة، فما أفاد من شمول روايات العلاج لاختلاف الفتاوى محل منع، مع أنّ لازمه إعمال مرجّحات باب التعارض فيها، و هو كما ترى.

فتحصّل من جميع ما ذكرناه: أنّه ليس في أخبار الباب ما يستفاد منه ترجيح قول الأعلم عند التعارض لغيره، و لا تخيير الأخذ بأحد المتساويين، فلا محيص إلّا العمل بالأُصول الأوّلية لو لا تسالم الأصحاب على عدم وجوب الاحتياط و مع هذا التسالم لا محيص عن الأخذ بقول الأعلم، لدوران الأمر بين التعيين و التخيير مع كون وجوبه أيضاً مورد تسالمهم، كما أنّ الظاهر تسالمهم على التخيير بين الأخذ بفتوى أحد المتساويين و عدم وجوب الاحتياط أو الأخذ بأحوط القولين.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 473

فصل في اشتراط الحياة في المفتي

اشارة

اختلفوا في اشتراط الحياة في المفتي على أقوال، ثالثها التفصيل بين البدوي و الاستمراري، لا إشكال في أنّ الأصل الأوّلي حرمة العمل بما وراء العلم، خرج عنه العمل بفتوى الحي و بقي غيره، فلا بدّ من الخروج عنه من دليل، و لمّا كان عمدة ما يمكن أن يقول عليه هو الاستصحاب فلا بدّ من تقريره و تحقيقه.

التمسّك بالاستصحاب على جواز تقليد الميّت

فنقول: قد قرّر الأصل بوجوه:

منها: أنّ المجتهد الفلاني كان جائز التقليد لكلّ مكلّف عامّي في زمان حياته، فيستصحب إلى بعد موته.

و منها: أنّ الأخذ بفتوى المجتهد الفلاني كان جائزاً في زمان حياته فيستصحب.

و منها: أنّ لكلّ مقلّد جواز الرجوع إليه في زمان حياته و بعدها كما كان، إلى غير ذلك من الوجوه المتقاربة.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 474

و قد يستشكل بأنّ جواز التقليد لكلّ بالغ عاقل إن كان بنحو القضيّة الخارجيّة بمعنى أنّ كلّ مكلّف كان موجوداً جاز له الرجوع إليه، فهو لا يفيد بالنسبة إلى الموجودين بعد حياته في الأعصار المتأخّرة. و بعبارة اخرى:

الدليل أخصّ من المدّعى.

و إن كان بنحو القضيّة الحقيقيّة، أي «كلّ من وجد في الخارج و كان مكلّفاً في كلّ زمان كان له تقليد المجتهد الفلاني» فإن اريد إجراء الاستصحاب التنجيزي فلا يمكن، لعدم إدراك المتأخّرين زمان حياته، فلا يقين بالنسبة إليهم، و إن كان بنحو التعليق فإجراء الاستصحاب التعليقي بهذا النحو محلّ منع.

و فيه: أنّ جعل الأحكام على نحو القضيّة الحقيقيّة ليس معناه أنّ لكلّ فرد من مصاديق العنوان حكماً مجعولًا برأسه، و معنى الانحلال إلى الأحكام ليس ذلك، بل لا يكون في القضايا الحقيقيّة إلّا جعل واحد لعنوان واحد، لا جعلات كثيرة بعدد أنفاس المكلّفين، لكن ذاك الجعل الواحد

يكون حجّة بحكم العقل و العقلاء على كلّ من كان مصداقاً للعنوان، مثلًا قوله تعالى: «وَ لِلّٰهِ عَلَى النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» «1» ليس إلّا جعلًا واحداً لعنوان واحد هو «مَنِ اسْتَطٰاعَ»، و لكنّه حجّة على كلّ مكلّف يستطيع.

فحينئذٍ لو علمنا بأنّ الحجّ كان واجباً على من استطاع إليه سبيلًا و شككنا في بقائه من أجل طروّ النسخ مثلًا، فلا إشكال في جريان استصحاب الحكم المتعلّق بالعنوان لنفس ذلك العنوان، فيصير بحكم الاستصحاب حجّة على كلّ من كان مصداقه، و لهذا لا يستشكل أحد في استصحاب عدم النسخ مع ورود هذا

______________________________

(1)- آل عمران (3): 97.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 475

الإشكال بعينه عليه، بل على جميع الاستصحابات الحكمية.

و السرّ فيه ما ذكرنا من أنّ الحكم على العنوان حجّة على المعنونات، فاستصحاب وجوب الحجّ على عنوان «المستطيع» جار بلا إشكال كاستصحاب جواز رجوع كلّ مقلّد إلى المجتهد الفلاني، و سيأتي كلام في هذا الاستصحاب فانتظر.

إشكال عدم بقاء موضوع الاستصحاب و الجواب عنه

فالعمدة في المقام هو الإشكال المعروف، أي عدم بقاء الموضوع.

و تقريره: أنّه لا بدّ في الاستصحاب من وحدة القضيّة المتيقّنة و المشكوك فيها، و موضوع القضيّة هو «رأي المجتهد و فتواه» و هو أمر قائم بنفس الحي، و بعد موته لا يتصف بحسب نظر العرف المعتبر في المقام بعلم و لا ظنّ، و لا رأي له بحسبه و لا فتوى، و لا أقلّ من الشكّ في ذلك، و معه أيضاً لا مجال للاستصحاب، لأنّ إحراز الموضوع شرط في جريانه، و لا إشكال في أنّ مدار الفتوى هو الظنّ الاجتهادي، و لهذا يقع المظنون بما هو كذلك وسطاً في قياس الاستنباط، و لا إشكال في عدم

إحراز الموضوع، بل في عدم بقائه.

و فيه: أنّ مناط عمل العقلاء على رأي كلّ ذي صنعة في صنعته هو أماريّته و طريقيّته إلى الواقع، و هو المناط في فتوى الفقهاء، سواء كان دليل اعتباره بناء العقلاء المحض أو الأدلّة اللفظيّة، فإنّ مفادها أيضاً كذلك، ففتوى الفقيه بأنّ صلاة الجمعة واجبة طريق إلى الحكم الشرعي و حجّة عليه، و إنّما تتقوّم طريقيّته و طريقيّة كلّ رأي خبير إلى الواقع إذا أفتى و أخبر بنحو الجزم،

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 476

لكن الوجود الحدوثي للفتوى بنحو الجزم يوجب كونه طريقاً إلى الواقع أبداً، و لا ينسلخ عنه ذلك إلّا بتجدّد رأيه أو الترديد فيه، و إلّا فهو طريق إلى الواقع، كان صاحب الرأي حيّاً أو ميّتاً، فإذا شككنا في جواز العمل به من حيث احتمال دخالة الحياة شرعاً في جوازه فلا إشكال في جريان الاستصحاب و وحدة القضيّة المتيقّنة و المشكوك فيها، فرأي العلّامة و قوله و كتاب «قواعده» كلٌّ كاشف عن الأحكام الواقعيّة، و وجودها الحدوثي كافٍ في كونه طريقاً، و هو المناط في جواز العمل شرعاً و لدى العقلاء.

و إن شئت قلت: جزم العلّامة أو إظهار فتواه جزماً جعل كتابه حجّةً و طريقاً إلى الواقع و جائز العمل في زمان حياته، و يشكّ في جواز العمل على طبقه بعد موته، فيستصحب.

و العجب من الشيخ الأعظم «1» حيث اعترف بأنّ الفتوى إذا كان عبارة عن نقل الأخبار بالمعنى يتمّ القول بأنّ القول موضوع الحكم و يجري الاستصحاب معه، مع أنّ حجّية الأخبار و طريقيّتها إلى الواقع أيضاً متقوّمتان بجزم الراوي، فلو أخبر أحد الرواة بيننا و بين المعصوم بنحو الترديد، لا يصير خبره أمارة

و حجّة على الواقع و لا جائز العمل، لكن مع إخباره جزماً يصير كاشفاً عنه و جائز العمل ما دام كونه كذلك، سواء كان مخبره حيّاً أو ميّتاً، مع عدم بقاء جزمه بعد الموت، لكن جزمه حين الإخبار كاف في جواز العمل و حجّية قوله دائماً إلّا إذا رجع عن إخباره الجزمي.

و هذا جار في الفتوى طابق النعل بالنعل، فقول الفقيه حجّة على الواقع

______________________________

(1)- مطارح الأنظار: 260/ السطر 6.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 477

و طريق إليه كإخبار المخبر، و هو باق على طريقيّته بعد الموت، و لو شكّ في جواز العمل به لأجل احتمال اشتراط الحياة شرعاً جاز استصحابه و تمّ أركانه.

و إن شئت قلت: إنّ جزم الفقيه أو إظهاره الفتوى على سبيل الجزم واسطة في حدوث جواز العمل بقوله و كتابه، و بعد موته نشكّ في بقاء الجواز لأجل الشكّ في كونه واسطة في العروض أو الثبوت فيستصحب.

و أمّا ما أفاد من كون الوسط في قياس الاستنباط هو المظنون بما هو كذلك و أنّ المظنون الحرمة حرام أو مظنون الحكم واجب العمل «1». ففيه: أنّ إطلاق الحجّة على الأمارات ليس باعتبار وقوعها وسطاً في الإثبات كالحجّة المنطقيّة، بل المراد منها هي كونها منجّزةً للواقع، بمعنى أنّه إذا قامت الأمارة المعتبرة على وجوب شي ء و كان واجباً بحسب الواقع فتركه المكلّف، تصحّ عقوبته و لا عذر له في تركه، و بهذا المعنى تطلق «الحجّة» على القطع كإطلاقها على الأمارات، بل تطلق على بعض الشكوك أيضاً.

و بالجملة: الحجّة في الفقه ليست هي القياس المنطقي، و لا يكون الحكم الشرعي مترتّباً على ما قام عليه الأمارة بما هو كذلك و لا المظنون بما

هو مظنون.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّ استصحاب جواز العمل على طبق رأي المجتهد و فتواه بمعنى حاصل المصدر و على طبق كتابه، الكاشفين عن الحكم الواقعي أو الوظيفة الظاهريّة ممّا لا مانع منه.

لا يقال: بناءً على ما ذكرت يصحّ استصحاب حجّية ظنّ المجتهد الموجود

______________________________

(1)- مطارح الأنظار: 260/ السطر 2.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 478

في زمان حياته. فلنا أن نقول: إنّ الحجّية و الأماريّة ثابتتان له في موطنه، و يحتمل بقاؤهما إلى الأبد، و مع الشكّ تستصحبان.

فإنّه يقال: هذا غير معقول، للزوم إثبات الحجّية و جواز العمل فعلًا لأمر معدوم، و كونه في زمانه موجوداً لا يكفي في إثبات الحجّية الفعليّة له مع معدوميّته فعلًا.

و إن شئت قلت: إنّ جواز العمل كان ثابتاً للظنّ الموجود، فموضوع القضيّة المتيقّنة هو الظنّ الموجود و هو الآن مفقود. اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ الظنّ في حال الوجود بنحو القضيّة الحينيّة موضوع للقضيّة لا بنحو القضيّة الوضعيّة و التقييديّة، و هو عين الموضوع في القضية المشكوك فيها. و قد ذكرنا في باب الاستصحاب أنّ المعتبر فيه وحدة القضيّتين لا إحراز وجود الموضوع فراجع «1»

. و لكن كون الموضوع كذلك في المقام محلّ إشكال و منع، مع أنّه لا يدفع الإشكال المتقدّم به.

تقرير إشكال آخر على الاستصحاب

ثمّ إنّ هاهنا إشكالًا قويّاً على هذا الاستصحاب، و هو أنّه إمّا أن يراد به استصحاب الحجّية العقلائية، فهي أمر غير قابل للاستصحاب، أو الحجّية الشرعيّة فهي غير قابلة للجعل.

أو جواز العمل على طبق قوله، فلا دليل على جعل الجواز الشرعي، بل الظاهر من مجموع الأدلّة هو تنفيذ الأمر الارتكازي العقلائي، فليس في الباب

______________________________

(1)- الاستصحاب، الإمام الخميني قدس سره: 203.

الاجتهاد و التقليد

(معتمد الأصول)، ج 2، ص: 479

دليل جامع لشرائط الحجّية يدلّ على تأسيس الشرع جواز العمل أو وجوبه على رأي المجتهد، فها هي الأدلّة المستدلّ بها للمقصود، فراجعها حتّى تعرف صدق ما ذكرناه.

أو استصحاب الأحكام الواقعيّة، فلا شكّ في بقائها، لأنّها لو تحقّقت أوّلًا فلا شكّ في أنّها متحقّقة في الحال أيضاً، لأنّ الشكّ في بقائها إمّا لأجل الشكّ في النسخ، أو الشكّ في فقدان شرط، كصلاة الجمعة في زمان الغيبة، أو حدوث مانع، و الفرض أنّه لا شكّ من هذه الجهات.

أو الأحكام الظاهريّة؛ بدعوى كونها مجعولة عقيب رأي المجتهد، بل عقيب سائر الأمارات، فهو أيضاً ممنوع، لعدم الدليل على ذلك، بل ظاهر الأدلّة على خلافها، لأنّ الظاهر منها إمضاء ما هو المرتكز لدى العقلاء، و المرتكز لديهم هو أماريّة رأي المجتهد للواقع كأماريّة رأي كلّ ذي صنعة إلى الواقع في صنعته.

و بالجملة: لا بدّ في جريان الاستصحاب من حكم أو موضوع ذي حكم، و ليس في المقام شي ء قابل له، أمّا الحكم الشرعي فمفقود، لعدم تطرّق جعل و تأسيس من الشارع، و أمّا ما لدى العقلاء من حجّية قول أهل الخبرة، فلعدم كونه موضوعاً لحكم شرعي، بل هو أمر عقلائي يتنجّز به الواقع بعد عدم ردع الشارع إيّاه، و أمّا إمضاء الشارع و ارتضائه لما هو المرتكز بين العقلاء فليس حكماً شرعيّاً حتّى يستصحب تأمّل بل لا يستفاد من الأدلّة إلّا الإرشاد إلى ما هو المرتكز، فليس جعل و تأسيس، كما لا يخفى.

إن قلت: بناءً عليه ينسدّ باب الاستصحاب في مطلق مؤدّيات الأمارات، فهل فتوى الفقيه إلّا إحداها؟! مع أنّه حقّق في محلّه جريانه في مؤدّياتها، فكما يجري فيها لا بدّ و أن يجري في

الحكم المستفاد من فتوى الفقيه.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 480

قلت: هذه مغالطة نشأت من خلط الشكّ في بقاء الحكم، و الشكّ في بقاء حجّية الحجّة عليه، فإنّ الأوّل مجرى الاستصحاب دون الثاني، فإذا قامت الأمارة أيّة أمارة كانت على حكم، ثمّ شكّ في بقائه لأحد أسباب طروّ الشكّ كالشكّ في النسخ يجري الأصل، لما ذكرنا في الاستصحاب من شمول أدلّته مؤدّيات الأمارات أيضاً، و أمّا إذا شكّ في أمارة بعد قيامها على حكم و حجّيتها في بقاء الحجّية لها في زمان الشكّ فلا يجري فيها، لعدم الشكّ في بقاء حكم شرعي كما عرفت. فقياس الاستصحاب في نفس الأمارة و حكمها، على الاستصحاب في مؤدّاها، مع الفارق؛ فإنّ المستصحب في الثاني هو الحكم الواقعي المحرز بالأمارة دون الأوّل.

إن قلت: بناءً على عدم استتباع قيام الأمارات- فتوى الفقيه كانت أو غيره- للحكم يلزم عدم تمكّن المكلّف من الجزم في النيّة و إتيان كثير من أجزاء العبادات و شرائطها رجاءً و هو باطل، فلا بدّ من الالتزام باستتباعها الحكم لتحصيل الجزم فيها.

قلت أوّلًا: لا دليل على لزوم الجزم فيها من إجماع أو غيره، و دعوى الإجماع ممنوعة في هذه المسألة العقليّة.

و ثانياً: إنّ الجزم حاصل لما ذكرنا من أنّ احتمال الخلاف في الطرق العقلائيّة مغفول عنه غالباً، أ لا ترى أنّ جميع المعاملات الواقعة من ذوي الأيادي تقع على سبيل الجزم، مع أنّ الطريق إلى ملكيّتهم هو اليد التي تكون طريقاً عقلائيّاً، و ليس ذلك إلّا لعدم انقداح احتمال الخلاف في النفوس تفصيلًا بحسب الغالب.

و ثالثا: إنّ المقلّدين الآخذين بقول الفقهاء لا يرون فتاويهم إلّا طريقاً إلى

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 481

الواقع، فالإتيان على مقتضى فتاويهم ليس إلّا بملاحظة طريقيتها إلى الواقع و كاشفيتها عن أحكام اللّٰه الواقعيّة كعملهم على طبق رأي كلّ خبرة فيما يرجع إليه، من دون تفاوت في نظرهم، و ليس استتباع فتاويهم للحكم الظاهري في ذهنهم بوجه حتّى يكون الجزم باعتباره. فالحكم الظاهري على فرض وجوده ليس محصّلًا للجزم؛ ضرورة كون هذا الاستتباع مغفولًا عنه لدى العقلاء العاملين على قول الفقهاء بما أنّهم عالمون بالأحكام و فتاويهم طريق إلى الواقع.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّ الاستصحاب غير جار، لفقدان المستصحب، أي الحكم أو الموضوع الذي له حكم.

و غاية ما يمكن أن يقال في التفصّي عن هذا الإشكال: أنّ احتياج الفقيه للفتوى بجواز البقاء على تقليد الميّت إلى الاستصحاب إنّما يكون في مورد اختلاف رأيه لرأي الميّت، و أمّا مع توافقهما فيجوز له الإفتاء بالأخذ برأي الميّت، لقيام الدليل عنده عليه، و عدم الموضوعيّة للفتوى و الأخذ برأي الحي، فلو فرض موافقة رأي فقيه حي لجميع ما في رسا فقيه ميّت يجوز له الإرجاع إلى رسالته من غير احتياج إلى الاستصحاب، بل لقيام الأمارة على صحّته، فما يحتاج في الحكم بجواز البقاء إلى الاستصحاب هو موارد اختلافهما.

فحينئذٍ نقول: لو أدرك مكلّف في زمان بلوغه مجتهدين حيّين متساويين في العلم مختلفين في الفتوى، يكون مخيّراً في الأخذ بأيّهما شاء، و هذا حكم مسلّم بين الفقهاء و أرسلوه إرسال المسلّمات من غير احتمال إشكال فيه، مع أنّه خلاف القاعدة، فإنّها تقتضي تساقطهما، فالحكم بالتخيير بنحو التسلّم في هذا المورد المخالف للقاعدة لا يكون إلّا بدليل شرعي وصل إليهم، أو للسيرة

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 482

المستمرّة إلى زمن الأئمّة عليهم السلام كما

هي ليست ببعيدة، فإذا مات أحد المجتهدين يستصحب هذا الحكم التخييري، و هذا الاستصحاب جارٍ في الابتدائي و الاستمراري.

نعم جريانه في الابتدائي الذي لم يدركه المكلّف حيّاً محلّ إشكال، لعدم دليل يثبت الحكم للعنوان حتّى يستصحب، فما ذكرنا في التفصّي عن الإشكال الأوّل في الباب من استصحاب الحكم الثابت للعنوان إنّما هو على فرض ثبوت الحكم له، و هو فرض محض.

فتحصّل ممّا ذكرنا تفصيل آخر: و هو التفصيل بين الابتدائي الذي لم يدرك المكلّف مجتهده حال بلوغه و بين الابتدائي المدرك كذلك و الاستمراري.

هذا مقتضى الاستصحاب، فلو قام الإجماع على عدم جواز الابتدائي مطلقاً تصير النتيجة التفصيل بين الابتدائي و الاستمراري، هذا كلّه حال الاستصح اب.

حال بناء العقلاء في تقليد الميّت

و أمّا بناء العقلاء فمحصّل الكلام فيه: أنّه لا إشكال في عدم التفاوت في ارتكاز العقلاء و حكم العقل بين فتوى الحي و الميّت، ضرورة طريقيّة كلّ منهما إلى الواقع من غير فرق بينهما، لكن مجرّد ارتكازهم و حكمهم العقلي بعدم الفرق بينهما لا يكفي في جواز العمل، بل لا بدّ من إثبات بنائهم على العمل على طبق فتوى الميّت كالحي، و تعارفه لديهم حتّى يكون عدم ردع الشارع كاشفاً عن إمضائه، و إلّا فلو فرض عدم جريان العمل على طبق فتوى الميّت و إن لم يتفاوت في ارتكازهم مع الحي لا يكون للردع مورد حتّى يكشف عدمه عن إمضاء الشارع.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 483

و الحاصل: أنّ جواز الاتّكال على الأمارات العقلائيّة موقوف على إمضاء الشارع لفظاً أو كشفه عن عدم الردع، و ليس ما يدلّ لفظاً عليه، و الكشف عن عدم الردع موقوف على جري العقلاء عملًا على طبق ارتكازهم، و مع عدمه لا محلّ

لردع الشارع و لا يكون سكوته كاشفاً عن رضاه.

فحينئذٍ نقول: لا إشكال في بناء العقلاء على العمل برأي الحي، و يمكن دعوى بنائهم على العمل بما أخذوا من الحي في زمان حياته ثمّ مات، ضرورة أنّ الجاهل بعد تعلّم ما يحتاج إليه من الحي، يرى نفسه عالماً، فلا داعي له من الرجوع إلى الآخر، بل يمكن إثبات ذلك من الروايات كرواية علي بن المسيّب المتقدّمة «1»

. فإنّ إرجاعه إلى زكريّا بن آدم- من غير ذكر حال حياته و أنّ ما يأخذه منه في حال الحياة لا يجوز العمل به بعد موته، مع أنّ في ارتكازه و ارتكاز كلّ عاقل عدم الفرق بينهما- دلالة على جواز العمل بما تعلّم منه مطلقاً، فإنّ كون شقّته بعيدة بحيث إنّه بعد رجوعه إلى شقّته كان يصير منقطعاً عن الإمام عليه السلام في مثل تلك الأزمنة، كان يوجب عليه بيان الاشتراط لو كانت الحياة شرطاً.

و احتمال أنّ رجوع علي بن المسيّب إليه كان في نقل الرواية، يدفعه ظهور الرواية، و مثلها مكاتبة أحمد بن حاتم و أخيه «2»

. و بالجملة: إرجاع الأئمّة عليهم السلام في الروايات الكثيرة، شيعتهم إلى العلماء عموماً و خصوصاً- مع خلوّها عن اشتراط الحياة- كاشف عن ارتضائهم بذلك.

______________________________

(1)- تقدّمت في الصفحة 462.

(2)- تقدّمت في الصفحة 461.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 484

نعم لا يكشف عن الأخذ الابتدائي بفتوى الميّت، فإنّ الدواعي منصرفة عن الرجوع إلى الميّت مع وجود الحي، و لم يكن في تلك الأزمنة تدوين الكتب الفتوائية متعارفاً، حتّى يقال: إنّهم كانوا يراجعون الكتب، فإنّ الكتب الموجودة في تلك الأزمنة كانت منحصرة بكتب الأحاديث، ثمّ بعد أزمنة متطاولة صار بنائهم على تدوين كتب

بنحو متون الأخبار ككتب الصدوقين و من في طبقتهما أو قريب العصر بهما، ثمّ بعد مرور الأزمنة جرت عادتهم على تدوين الكتب التفريعيّة و الاستدلاليّة، فلم يكن الأخذ من الأموات ابتداءً ممكناً في الصدر الأوّل و لا متعارفاً أصلًا.

نعم من أخذ فتوى حي في زمان حياته، فقد كان يعمل به على الظاهر؛ ضرورة عدم الفرق في ارتكازه بين الحي و الميّت، و لم يرد ردع عن ارتكازهم و بنائهم العملي، بل إطلاق الأدلّة يقتضي الجواز أيضاً.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّه لو كان مبنى جواز البقاء على تقليد الميّت هو بناء العقلاء، فلا بدّ من التفصيل بين ما إذا أخذ فتوى الميّت في زمان حياته و غيره، و الإنصاف: أنّ جواز البقاء على فتوى الميّت بعد الأخذ منه في الجملة هو الأقوى، و أمّا الأخذ الابتدائي ففيه إشكال، بل الأقوى عدم جوازه.

و أمّا التمسّك بالأدلّة اللفظية كالكتاب و السنّة فقد عرفت في المبحث السالف عدم دلالتهما على تأسيس حكم شرعي في هذا الباب فراجع.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 485

فصل في تبدّل الاجتهاد

اشارة

إذا اضمحلّ الاجتهاد السابق و تبدّل رأي المجتهد فلا يخلو إمّا أن يتبدّل من القطع إلى القطع أو إلى الظنّ المعتبر، أو من الظنّ المعتبر إلى القطع أو إلى الظنّ المعتبر.

حال الفتوى المستندة إلى القطع

فإن تبدّل من القطع إلى غيره فلا مجال للقول بالإجزاء؛ ضرورة أنّ الواقع لا يتغيّر عمّا هو عليه بحسب العلم و الجهل، فإذا قطع بعدم كون السورة جزءًا للصلاة، ثمّ قطع بجزئيتها أو قامت الأمارة عليها، أو تبدّل قطعه، يتبيّن له في الحال الثاني وجداناً أو تعبّداً عدم كون المأتي به مصداقاً للمأمور به، و معه لا وجه للإجزاء. و لا يتعلّق بالقطع جعل حتّى يتكلّم في دلالة دليله على إجزائه عن الواقع أو بدليّته عنه، و إنّما هو عذر في صورة ترك المأمور به، فإذا ارتفع العذر يجب عليه الإتيان بالمأمور به في الوقت و خارجه إن كان له القضاء.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 486

حال الفتوى المستندة إلى الأمارات

و إن تبدّل من الظنّ المعتبر فإن كان مستنده الأمارات كخبر الثقة و غيره، فكذلك إذا كانت الأمارة عقلائيّة أمضاها الشارع، ضرورة أنّ العقلاء إنّما يعملون على ما عندهم كخبر الثقة و الظواهر بما أنّها كاشفة عن الواقع و طريق إليه و من حيث عدم اعتنائهم باحتمال الخلاف، و إمضاء الشارع هذه الطريقة لا يدلّ على رفع اليد عن الواقعيّات، و تبديل المصاديق الأوّلية بالمصاديق الثانويّة أو جعل المصاديق الناقصة منزلة التامّة.

و ربّما يقال: إنّ الشارع إذا أمر بطبيعة كالصلاة، ثمّ أمر بالعمل بقول الثقة أو أجاز المأمور بالعمل به، يكون لازمه الأمر أو الإجازة بإتيان المأمور به على طبق ما أدّى إليه قول الثقة، و لازم ذلك هو الإجزاء، ففي مثل قوله:

«أَقِمِ الصَّلٰاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ» «1» يكون أمر بصلاتين إلى غسق الليل لا غير، فإذا أمر بالعمل على قول الثقة فقد أمر بإتيان المأمور به بالكيفية التي أدّى إليها الأمارة، فلا محالة

يكون المأتي به مصداقاً للمأمور به عنده، و إلّا لمّا أمر بإتيانه كذلك فلا محيص عن الإجزاء، لتحقّق مصداق المأمور به و سقوط الأمر.

و لكنّك خبير بأنّ إمضاء طريقة العقلاء ليس إلّا لأجل تحصيل الواقعيّات، لمطابقة الأمارات العقلائية نوعاً للواقع، و ضعف احتمال تخلّفها عنه، و في مثل ذلك لا وجه لسقوط الأمر إذا تخلّف عن الواقع، كما أنّ الأمر كذلك عند العقلاء،

______________________________

(1)- الإسراء (17): 78.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 487

و الفرض أنّ الشارع لم يأمر تأسيساً. بل و كذا الحال لو أمر الشارع على أمارة تأسيساً و كان لسان الدليل هو التحفّظ على الواقع، فإنّ العرف لا يفهم منه إلّا تحصيل الواقع لا تبديله بمؤدّى الأمارة.

و أنت إذا راجعت الأدلّة المستدلّ بها على حجّية خبر الثقة، لترى أنّ مفادها ليس إلّا إيجاب العمل به لأجل الوصول إلى الواقعيات، كالآيات على فرض دلالتها و كالروايات، فإنّها تنادي بأعلى صوتها بأنّ إيجاب العمل على قول الثقة إنّما هو لكونه ثقة و غير كاذب و أنّه موصل إلى الواقع، و في مثله لا يفهم العرف أنّ الشارع يتصرّف في الواقعيّات على نحو أداء الأمارة.

هذا مع أنّ احتمال التأسيس في باب الأمارات العقلائية مجرّد فرض، و إلّا فالناظر فيها يقطع بأنّ الشارع لم يكن في مقام تأسيس و تحكيم، بل في مقام إرشاد و إمضاء ما لدى العقلاء، و الضرورة قاضية بأنّ العقلاء لا يعملون على طبقها إلّا لتحصيل الواقع، و حديث تبديل الواقع بما يكون مؤدّى الأمارة ممّا لا أصل له في طريقتهم، فالقول بالإجزاء فيها ضعيف غايته.

و أضعف منه التفصيل بين تبدّل الاجتهاد الأوّل بالقطع فلا يجزي، و بين تبدّله باجتهاد آخر فيجزي،

بدعوى عدم الفرق بين الاجتهادين الظنّيين و عدم ترجيح الثاني حتّى يبطل الأوّل، و ذلك لأنّ تبدّل الاجتهاد لا يمكن إلّا مع اضمحلال الاجتهاد الأوّل بالعثور على دليل أقوى أو بالتخطئة للاجتهاد الأوّل، و معه لا وجه لاعتباره فضلًا عن مصادمته للثاني.

هذا حال الفتوى المستند إلى الأمارات.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 488

حال الفتوى المستندة إلى الاصول

و أمّا إذا استند إلى الاصول كأصالتي الطهارة و الحلّية في الشبهات الحكميّة، و كالاستصحاب فيها، و كحديث الرفع، فالظاهر هو الإجزاء مع اضمحلال الاجتهاد.

أمّا في أصالتي الطهارة و الحلّية، فلأنّ الظاهر من دليلهما هو جعل الوظيفة الظاهريّة لدى الشكّ في الواقع، فإنّ معنى قوله:

«كلّ شي ء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر»

«1» و

«كلّ شي ء حلال حتّى تعرف أنّه حرام بعينه»

«2» ليس أنّه طاهر و حلال واقعاً حتّى تكون النجاسة و الحرمة متقيّدتين بحال العلم بهما، ضرورة أنّه التصويب الباطل، و لا معنى لجعل المحرزيّة و الكاشفية للشكّ مع كونه خلاف أدلّتهما، و لا لجعلهما لأجل التحفّظ على الواقع، بل الظاهر من أدلّتهما هو جعل الطهارة و الحلّية الظاهريتين، و لا معنى لهما إلّا تجويز ترتيب آثار الطهارة و الحلّية على المشكوك فيه، و معنى تجويز ترتيب الآثار تجويز إتيان ما اشترط فيه الطهارة و الحلّية مع المشكوك فيه، فيصير المأتي به معهما مصداق المأمور به تعبّداً، فيسقط أمره.

فإذا دلّ الدليل على لزوم إتيان الصلاة مع طهارة الثوب، ثمّ شكّ في طهارة

______________________________

(1)- تهذيب الأحكام 1: 284/ 832، وسائل الشيعة 3: 467، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 37، الحديث 4.

(2)- الكافي 5: 313/ 40، وسائل الشيعة 17: 89، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 4، الحديث 4، مع اختلاف يسير.

الاجتهاد

و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 489

ثوبه، دلّ قوله: «كلّ شي ء طاهر»- الذي يرجع إلى جواز ترتيب الطهارة على الثوب المشكوك فيه- على جواز إتيان الصلاة معه و تحقّق مصداق الصلاة به، فإذا تبدّل شكّه بالعلم لا يكون من قبيل كشف الخلاف كما ذكرنا في الأمارات «1»، لأنّها كواشف عن الواقع، فلها واقع تطابقه أو لا تطابقه، بخلاف مؤدّى الأصلين، فإنّ مفاد أدلّتهما ترتيب آثار الطهارة أو الحلّية بلسان جعلهما، فتبديل الشكّ بالعلم من قبيل تبديل الموضوع لا التخلّف عن الواقع، فأدلّتهما حاكمة على أدلّة جعل الشروط و الموانع في المركّبات المأمور بها.

و بالجملة: إذا أمر المولى بإتيان الصلاة مع الطهارة و أجاز الإتيان بها في ظرف الشكّ مع الثوب المشكوك فيه بلسان جعل الطهارة، و أجاز ترتيب آثار الطهارة الواقعيّة عليه، ينتج جواز إتيان الصلاة المأمور بها مع الطهارة الظاهريّة و معاملة المكلّف معها معاملة الطهارة الواقعيّة، فيفهم العرف من ذلك حصول مصداق المأمور به معها، فيسقط الأمر، و بعد العلم بالنجاسة لا يكون من قبيل كشف الخلاف كما في الأمارات الكاشفة عن الواقع.

و لا يبعد أن يكون الأمر كذلك في الاستصحاب، فإنّ الكبرى المجعولة فيه و هي قوله:

«لا ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً»

«2» ليس مفادها جعل اليقين أمارة بالنسبة إلى زمان الشكّ، ضرورة عدم كاشفيّته بالنسبة إليه عقلًا، لامتناع كونه طريقاً إلى غير متعلّقه، و لا معنى لجعله طريقاً إلى غيره، فلا يكون

______________________________

(1)- تقدّم في الجزء الأوّل: 422- 423.

(2)- تهذيب الأحكام 1: 421/ 1335، وسائل الشيعة 3: 466، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 37، الحديث 1.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 490

الاستصحاب من الأمارات، بل و لا

يكون جعله للتحفّظ على الواقع كإيجاب الاحتياط في الشبهة البدويّة في الأعراض و الدماء، فإنّه أيضاً خلاف مفادها و إن احتملناه بل رجّحناه سابقاً، بل الظاهر منها أنّه لا ينبغي للشاكّ الذي كان على يقين رفع اليد عن آثاره، فيجب عليه ترتيب آثاره، فيرجع إلى وجوب معاملة بقاء اليقين الطريقي معه في زمان الشكّ، و هو مساوق عرفاً لتجويز إتيان المأمور به المشروط بالطهارة الواقعيّة مثلًا مع الطهارة المستصحبة، و لازم ذلك صيرورة المأتي به معها مصداقاً للمأمور به، فيسقط الأمر المتعلّق به.

و بالجملة: يكون حاله في هذا الأثر كحال أصالتي الطهارة و الحلّ؛ من حيث كونه أصلًا عمليّاً و وظيفةً في زمان الشكّ، لا أمارة على الواقع، و لا أصلًا للتحفّظ عليه حتّى يأتي فيه كشف الخلاف، و يدلّ على ذلك صحيحة زرارة الثانية «1» حيث حكم فيها بغسل الثوب و عدم إعادة الصلاة، معلّلًا بأنّه كان على يقين في طهارته فشكّ، و ليس ينبغي له أن ينقض اليقين بالشكّ.

و كذا الحال فيما إذا كان المستند حديث الرفع، فإنّ قوله:

«رفع ما لا يعلمون»

«2»- بناءً على شموله للشبهات الحكميّة و الموضوعيّة- لسانه رفع الحكم و الموضوع باعتبار الحكم، لكن لا بدّ من رفع اليد عن هذا الظاهر حتّى بالنسبة إلى الشبهات الموضوعية، لأنّ لازمه طهارة ما شكّ في نجاسته

______________________________

(1)- تهذيب الأحكام 1: 421/ 1335، وسائل الشيعة 3: 466، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 37، الحديث 1.

(2)- الخصال: 417/ 9، التوحيد: 353/ 24، وسائل الشيعة 15: 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحديث 1.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 491

موضوعاً واقعاً، و لا يمكن الالتزام بطهارة ملاقيه في زمان الشكّ بعد

كشف الخلاف، فلا بدّ من الحمل على البناء العملي على الرفع و ترتيب آثار الرفع الواقعي، فإذا شكّ في جزئية شي ء في الصلاة أو شرطيّته لها أو مانعيّته فحديث الرفع يدلّ على رفع الجزئيّة و الشرطيّة و المانعيّة، فحيث لا يمكن الالتزام بالرفع الحقيقي لا مانع من الالتزام بالرفع الظاهري، نظير الوضع الظاهري في أصالتي الطهارة و الحلّية، فيرجع إلى معاملة الرفع في الظاهر و جواز إتيان المأمور به كذلك، و صيرورة المأتي به مصداقاً للمأمور به بواسطة حكومة دليل الرفع على أدلّة الأحكام.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّ التحقيق هو التفصيل بين الأمارات و الاصول كما عليه المحقّق الخراساني رحمه الله «1»

. هذا كلّه بحسب مقام الإثبات و ظهور الأدلّة، و أمّا بحسب مقام الثبوت فلا بدّ من توجيهه بوجه لا يرجع إلى التصويب الباطل.

ثمّ إنّه ظهر ممّا ذكرنا أنّ القائل بالإجزاء لا يلتزم بالتصرّف في أحكام المحرّمات و النجاسات، و لا يقول بحكومة أدلّة الاصول على أدلّة الأحكام الواقعيّة التي هي في طولها، و ليس محطّ البحث في باب الإجزاء بأدلّة اصول الطهارة و الحلّية و الاستصحاب هو التضييق أو التوسعة في أدلّة النجاسات و المحرّمات حتّى يقال: إنّ الأمارات و الاصول وقعت في رتبة إحراز الأحكام الواقعيّة، و الحكومة فيها غير الحكومة بين الأدلّة الواقعيّة بعضها مع بعض، و إنّ لازم ذلك هو الحكم بطهارة ملاقي النجس الواقعي إذا لاقى في زمان الشكّ ...

______________________________

(1)- كفاية الاصول: 110.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 492

و غير ذلك ممّا وقع من بعض الأعاظم على ما في تقريرات بحثه «1»، بل محطّ البحث هو أنّ أدلّة الاصول الثلاثة هل تدلّ بحكومتها على أدلّة الأحكام

على تحقّق مصداق المأمور به تعبّداً حتّى يقال بالإجزاء أم لا؟

________________________________________

خمينى، سيد روح اللّٰه موسوى، الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، در يك جلد، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خمينى قدس سره، تهران - ايران، اول، 1420 ه ق

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)؛ ج 2، ص: 492

هذا مع بقاء النجاسات و المحرّمات على ما هي عليها من غير تصرّف في أدلّتها، فالشكّ في الطهاره و الحلّية بحسب الشبهة الحكميّة إنّما هو في طول جعل النجاسات و المحرّمات، لا في طول جعل الصلاة مشروطةً بطهارة ثوب المصلّي و بكونه من المأكول، و الخلط بين المقامين أوقعه فيما أوقعه، و في كلامه محالّ أنظار تركناها مخافة التطويل.

ثمّ إنّ هذا كلّه حال المجتهد بالنسبة إلى تكاليف نفسه.

تكليف المقلّد مع تبدّل رأي مجتهده

و أمّا تكاليف مقلّديه فهل هو كالمجتهد في التفصيل بين كون رأي المقلّد مستنداً إلى الأمارات، و بين كونه مستنداً إلى الاصول، بأن يقال: إنّ المجتهد يعيّن وظائف العباد مطلقاً واقعاً و ظاهراً، فكما أنّ في وظائفه الظاهريّة تحكم بالإجزاء بواسطة أدلّة الاصول و حكومتها على الأدلّة، فكذا في تكاليف مقلّديه طابق النعل بالنعل أو لا؟ بأن يقال: إنّ المقلّد مستنده في الأحكام مطلقاً هو رأي المجتهد، و هو أمارة إلى تكاليفه بحسب ارتكازه العقلائي، و الشرع أيضاً أمضى هذا الارتكاز و البناء العملي العقلائي، و ليس مستند المقلّدين في العمل هو

______________________________

(1)- فوائد الاصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 249- 251.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 493

أصالة الطهارة أو الحلّية أو الاستصحاب أو حديث الرفع في الشبهات الحكميّة التي هي مورد بحثنا هاهنا؛ لأنّ العامّي لا يكون مورداً لجريان الاصول الحكميّة، فإنّ موضوعها الشكّ بعد الفحص و اليأس

من الأدلّة الاجتهاديّة، و العامّي لا يكون كذلك، فلا يجري في حقّه الاصول حتّى تحرز مصداق المأمور به، و مجرّد كون مستند المجتهد هو الاصول و مقتضاها الإجزاء، لا يوجب الإجزاء بالنسبة إلى من لم يكن مستنده إيّاها؛ فإنّ المقلّد ليس مستنده في العمل هي الاصول الحكميّة، بل مستنده الأمارة- و هي رأي المجتهد- على حكم اللّٰه تعالى، فإذا تبدّل رأيه فلا دليل على الإجزاء.

أمّا دليل وجوب اتّباع المجتهد، فلأنّه ليس إلّا بناء العقلاء الممضى، كما يظهر للناظر في الأدلّة، و إنّما يعمل العقلاء على رأيه لإلغاء احتمال الخلاف، و إمضاء الشارع لذلك لا يوجب الإجزاء كما تقدّم «1»

. و أمّا أدلّة الاصول فهي ليست مستنده و لا هو مورد جريانها، لعدم كونه شاكّاً بعد الفحص و اليأس عن الأدلّة، فلا وجه للإجزاء، و هذا هو الأقوى.

فإن قلت: إذا لم يكن المقلّد موضوعاً للأصل و لا يجري في حقّه، فلم يجوز للمجتهد أن يفتي مستنداً إلى الأصل بالنسبة إلى مقلّديه، مع أنّ أدلّة الاصول لا تجري إلّا للشاكّ بعد الفحص و اليأس و هو المجتهد فقط لا المقلّد؟! و لو قيل: إنّ المجتهد نائب عن مقلّديه، فمع أنّه لا محصّل له، لازمه الإجزاء.

______________________________

(1)- تقدّم في الصفحة 486- 487.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 494

قلت: قد ذكرنا سابقاً «1» أنّ المجتهد إذا كان عالماً بثبوت الحكم الكلّي المشترك بين العباد ثمّ شكّ في نسخه مثلًا يصير شاكّاً في ثبوت هذا الحكم بينهم، فيجوز له الإفتاء به كما له العمل به، فكما أنّ الأمارة إذا قامت على حكم مشترك كلّي يجوز له الإفتاء بمقتضاها، كذلك إذا كان مقتضى الاستصحاب فله العمل به و الفتوى بمقتضاه،

فإذا أفتى يعمل المقلّدين على طبق فتواه، لبناء العقلاء على رجوع الجاهل بالعالم.

فتحصّل من ذلك: أنّ المجتهد له الإفتاء بمقتضى الاصول الحكميّة، و مقتضى القاعدة هو الإجزاء بالنسبة إليه دون مقلّديه، لاستناده إلى الاصول المقتضية للإجزاء و استنادهم إلى رأيه الغير المقتضي لذلك.

______________________________

(1)- تقدّم في الصفحة 479.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 495

فصل في أنّ تخيير العامّي في الرجوع إلى مجتهدين متساويين بدوي أو استمراري

بعد البناء على تخيير العامّي في الرجوع إلى مجتهدين متساويين هل يجوز له العدول بعد تقليد أحدهما؟

اختار شيخنا العلّامة التفصيل بين العدول في شخص واقعة بعد الأخذ و العمل فيه، كما لو صلّى بلا سورة بفتوى أحدهما، فأراد تكرار الصلاة مع السورة بفتوى الآخر، و بين العدول في الوقائع المستقبلة التي لم تعمل، أو العدول قبل العمل بعد الالتزام و الأخذ، فذهب إلى عدم الجواز مطلقاً في الأوّل، و عدم الجواز في الأخيرين إن قلنا بأنّ التقليد هو الالتزام و الأخذ، و الجواز إن قلنا بأنّه نفس العمل مستنداً إلى الفتوى.

و وجّهه في الأوّل بأنّه لا مجال له للعدول بعد العمل بالواجب المخيّر، لعدم إمكان تكرار صرف الوجود و امتناع تحصيل الحاصل، و ليس كلّ زمان قيداً للأخذ بالفتوى، حتّى يقال: إنّه ليس باعتبار الزمان المتأخّر تحصيلًا للحاصل، بل الأخذ بالمضمون أمر واحد ممتدّ يكون الزمان ظرفاً له بحسب الأدلّة.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 496

نعم يمكن إفادة التخيير في الأزمنة المتأخّرة بدليل آخر يفيد التخيير في الاستدامة على العمل الموجود و رفع اليد عنه و الأخذ بالآخر، و إذ هو ليس فليس. و إفادته بأدلّة التخيير في إحداث الأخذ بهذا أو ذاك ممتنع، للزوم الجمع بين لحاظين متنافيين، نظير الجمع بين الاستصحاب و القاعدة بدليل واحد. و

لا يجري الاستصحاب؛ لأنّ التخيير بين الإحداثين غير ممكن الجرّ إلى الزمان الثاني، و بالنحو الثاني لا حالة سابقة له، و الاستصحاب التعليقي لفتوى الآخر غير جار؛ لأنّ الحجّية المبهمة السابقة صارت معيّنة في المأخوذ، و زالت قطعاً، كالملكيّة المشاعة إذا صارت مفروزة. و وجه الأخيرين بهذا البيان بعينه إن قلنا: إنّ المأمور به في مثل قوله:

«فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا»

«1» و غيره هو العمل الجوانحي، أي الالتزام و البناء العقلي، و إن قلنا: بأنّه العمل، فلا إشكال في بقاء الأمر التخييري في كلا القسمين بلا محذور، و مع فقد الإطلاق لا مانع من الاستصحاب «2»، انتهى ملخّصاً من تقرير بحثه.

أقول: ما يمكن البحث عنه في الصورة الاولى هو جواز تكرار العمل بعد الإتيان به مطابقاً لفتوى الأوّل، و أمّا البحث عن بقاء التخيير و كذا جواز العدول بعنوانهما، فأمر غير صحيح؛ ضرورة أنّ التخيير بين الإتيان بما أتى به و العمل بقول الآخر ممّا لا معنى له، و طرح العمل الأوّل و إعدامه غير معقول بعد

______________________________

(1)- كمال الدين: 484/ 4، وسائل الشيعة 27: 140، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 9.

(2)- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 716- 717، كتاب البيع، المحقّق الأراكي 2: 471- 475.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 497

الوجود حتّى يتحقّق ثانياً موضوع التخيير، و كذا لا يعقل العدول بحقيقته بعد العمل، فلا بدّ و أن يكون البحث ممحّضاً في جواز العمل بقول الثاني بعد العمل بقول الأوّل.

قد يقال بعدم الجواز؛ لأنّ الإتيان بأحد شقّي الواجب التخييري موجب لسقوط التكليف جزماً، فالإتيان بعده بداعويّة الأمر الأوّل، أو باحتمال داعويّته، أو بداعويّة المحتمل، غير معقول، و مع العلم بالسقوط

لا معنى لإجراء الاستصحاب، لا استصحاب الواجب التخييري، و هو واضح، و لا جواز العمل على طبق الثاني، لفرض عدم احتمال أمر آخر غير التخييري الساقط، و كان الظاهر من تقريرات بحث شيخنا ذلك.

و فيه: إنّ ذلك ناشٍ من الخلط بين التخيير في المسألة الفرعيّة و المسألة الاصوليّة فإنّ ما ذكر وجيه في الأوّل دون الثاني، لأنّ الأمر التخييري في الثاني لا نفسيّة له، بل لتحصيل الواقع بحسب الإمكان بعد عدم الإلزام بالاحتياط، فمع الإتيان بأحد شقّي التخيير فيه، يبقى للعمل بالآخر مجال واسع و إن لم يكن المكلّف ملزماً به، تخفيفاً عليه.

نعم لو قلنا بحرمة الاحتياط أو بالإجزاء في باب الطرق و لو مع عدم المطابقة، لكان الوجه ما ذكر، لكنّهما خلاف التحقيق.

و بهذا يظهر: أنّ استصحاب جواز الإتيان بما لم يأت به، لا مانع منه لو شكّ فيه.

نعم لا يجري الاستصحاب التعليقي؛ لأنّ التعليق ليس بشرعي.

و أمّا الصورتان الأخيرتان بناءً على كون التقليد الالتزام و العقد القلبي، فقياسهما على الصورة الاولى مع الفارق، لإمكان إبطال الموضوع و إعدامه

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 498

بالرجوع عن الالتزام و عقد القلب، فصار حينئذٍ موضوعاً للأمر بإحداث الأخذ بأحدهما من غير ورود الإشكال المتقدّم- من لزوم الجمع بين اللحاظين- عليه، و ليس الكلام هاهنا في إطلاق الدليل و إهماله، بل في إمكانه بعد الفراغ عن فرض الإطلاق.

و ممّا ذكرنا يظهر أنّ ما أفاده رحمه الله من أنّ الالتزام و عقد القلب أمر وجداني ممتدّ، إذا حصل في زمان لا يعقل حدوثه ثانياً، غير وجيه؛ لأنّ الالتزام بعد انعدام الالتزام الأوّل إحداث لا إبقاء، لامتناع إعادة المعدوم.

هذا مع قطع النظر عن حال الأدلّة إثباتاً،

و إلّا فقد مرّ «1» أنّه لا دليل لفظي في باب التقليد يمكن الاتّكال عليه فضلًا عن الإطلاق بالنسبة إلى حال التعارض بين فتويين، و إنّما قلنا بالتخيير للشهرة و الإجماع المنقولين و هما معتبران في مثل تلك المسألة المخالفة للقواعد، و المتيقّن منهما هو التخيير الابتدائي؛ أي التخيير قبل الالتزام.

و التحقيق: عدم جريان استصحاب التخيير و لا الجواز، لاختلاف التخيير الابتدائي و الاستمراري موضوعاً و جعلًا، فلا يجري استصحاب شخص الحكم، و كذا استصحاب الكلّي، لفقدان الأركان في الأوّل، و لكون الجامع أمراً انتزاعيّاً لا حكماً شرعياً و لا موضوعاً ذا أثر شرعي، و ترتيب أثر المصداق على استصحاب الجامع مثبت، و لا فرق في ذلك بين استصحاب جامع التخييرين أو جامع الجوازين الآتيين من قبلهما.

______________________________

(1)- تقدّم في الصفحة 469.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 499

فصل في اختلاف الحي و الميّت في مسألة البقاء

إذا قلّد مجتهداً كان يقول بوجوب الرجوع إلى الحي فمات، فإن غفل المقلّد عن الواقعة و لوازمها و رجع عنه بتوهّم جواز تقليده في الرجوع فلا كلام إلّا في صحّة أعماله و عدمها. و إن تذكّر بعدم جواز تقليده في ذلك، فإنّه أيضاً تقليد للميّت، أو تحيّر و رجع إلى الحي في هذه المسألة و كان هو قائلًا بوجوب البقاء، فمع تقليده من الحي فيها يجب عليه البقاء في سائر المسائل.

و أمّا في هذه المسألة الاصولية، فلا يجوز له البقاء؛ لأنّه قلّد فيها الحي و لا تحيّر له فيها حتّى قلّد عن الميّت، و لا يجوز للمفتي الحي الإفتاء بالبقاء فيها؛ لكون الميّت على خطأ عنده، فلا يشكّ حتّى يجري الاستصحاب.

و كذا لا يجوز له إجراء الاستصحاب للمقلّد، لكونه غير شاكّ فيها، لقيام الأمارة لديه، و

هي فتوى الحي، بل لا يجري بالنسبة إليه و لو مع قطع النظر عن فتوى الحي، لأنّ المجتهد في الشبهات الحكميّة يكون مشخصاً لمجاري الاصول، و أمّا الأحكام- اصوليّةً أو فرعيّة- فلا اختصاص لها بالمجتهد، بل هي مشتركة بين العالم و الجاهل، فحينئذٍ لو رأى خطأ الميّت و قيام الدليل على

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 500

خلافه فلا محالة يرى عدم جريان الاستصحاب، لاختلال أركانه، و هو أمر مشترك بينه و بين جميع المكلّفين.

و بما ذكرناه تظهر مسألة اخرى، و هي أنّه: لو قلّد مجتهداً في الفروع، فمات، فقلّد مجتهداً يرى وجوب الرجوع فرجع إليه فمات، فقلّد مجتهداً يرى وجوب البقاء يجب عليه الرجوع إلى فتوى المجتهد الأوّل، لقيام الأمارة الفعليّة على بطلان فتوى الثاني بالرجوع، فيرى أنّ رجوعه عن الميّت الأوّل كان باطلًا، فالميزان على الحجّة الفعليّة؛ و هي فتوى الحي.

و القول بجواز البقاء على رأي الثاني برأي الثالث غير صحيح؛ لأنّ الثالث يرى بطلان رأي الثاني في المسألة الاصوليّة، و عدم صحّة رجوع المقلّد عن تقليد الأوّل، فقامت عند المقلّد فعلًا أمارة على بطلانه، فلا معنى لبقائه فيها.

و أمّا شيخنا العلّامة أعلى اللّٰه مقامه- بعد نقل كلام شيخنا الأعظم قدس سره من كون المقام إشكالًا و جواباً نظير ما قيل في شمول أدلّة حجّية خبر الثقة لخبر السيّد بعدم حجّيته، و أجاب عنه بمثل ما أجاب في ذلك المقام، و بعد بيان الفرق بين المقامين بأنّه لم يلزم في المقام التخصيص المستهجن و اللغز و المعمّا؛ لعدم عموم صادر عن المعصوم فيه- قال ما ملخّصه:

المحقّق في المقام فتوى: أنّه لا يمكن الأخذ بكليهما، لأنّ المجتهد بعد ما نزّل نفسه منزلة

المقلّد في كونه شاكّاً رأى هنا طائفتين من الأحكام ثابتتين للمقلّد، إحداهما: فتوى الميّت في الفروع، و ثانيتهما: الفتوى في الاصول الناظرة إلى الفتاوى في الفروع و المسقطة لها عن الحجّية، فيرى أركان الاستصحاب فيهما تامّة.

ثمّ قال: لا محيص من الأخذ بالفتوى الاصوليّة، فإنّه لو اريد في

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 501

الفرعيّة استصحاب الأحكام الواقعيّة فالشكّ في اللاحق موجود دون اليقين السابق؛ أمّا الوجداني فواضح، و أمّا التعبّدي فلارتفاعه بموت المفتي، فصار كالشكّ الساري، و إن اريد استصحاب الحكم الظاهري الجائي من قبل دليل اتّباع الميّت، فإن اريد استصحابه مقيّداً بفتوى الميّت فالاستصحاب في الاصوليّة حاكم عليه، لأنّ الشكّ في الفروعيّة مسبّب عن الشكّ فيها، و إن اريد استصحاب ذات الحكم الظاهري و جعل كونه مقول قول الميّت جهة تعليلية فاحتمال ثبوته إمّا بسبب سابق، فقد سدّ بابه الاستصحاب الحاكم، أو بسبب لاحق فهو مقطوع العدم، إذ مفروض الكلام صورة مخالفة فتوى الميّت للحي.

نعم، يحتمل بقاء الحكم الواقعي، لكن لا يكفي ذلك في الاستصحاب، لأنّه مع الحكم الظاهري في رتبتين و موضوعين، فلا يكون أحدهما بقاءً للآخر، لكن يجري استصحاب الكلّي بناءً على جريانه في القسم الثالث.

و إن اريد استصحاب حجّية فتاوى الفرعيّة فاستصحاب الحجّية في الاصوليّة حاكم عليه، لأنّ شكّه مسبّب عنه، لأنّ عدم حجّية تلك الفتاوى أثر لحجّية هذه، و ليس الأصل مثبتاً، لأنّ هذا من الآثار الثابتة لذات الحجّة الأعمّ من الظاهريّة و الواقعيّة.

ثمّ رجع عمّا تقدّم و اختار عدم جريان الاستصحاب في الاصوليّة، فإنّ مقتضى جريانه الأخذ بخلاف مدلوله، و مثله غير مشمول لأدلّة الاستصحاب، فإنّ مقتضى الأخذ باستصحاب هذا الفتوى، سقوط فتاويه عن الحجّية، و مقتضى

سقوطها الرجوع إلى الحي، و هو يفتي بوجوب البقاء، فالأخذ بالاستصحاب في الاصوليّة- التي مفادها عدم الأخذ بفتاويه في الفرعيّات- لازمه الأخذ في الفرعيّات بها.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 502

و هذا باطل، و إن كان اللزوم لأجل الرجوع إلى الحي لا لكون مفاد الاستصحاب ذلك؛ إذ لا فرق في الفساد بين الاحتمالين.

هذا مضافاً إلى أنّ المسؤول عنه في الفرعيّات المسألة الاصولية؛ أعني من المرجع فيها، فلا ينافي مخالفة الحي للميّت في نفس الفروع مع إفتائه بالبقاء في المسألة الاصوليّة، و أمّا الفتوى الاصوليّة فنفسها مسئول عنها و يكون الحي هو المرجع فيها، و في هذه المسألة لا معنى للاستصحاب بعد أن يرى الحي خطأ الميّت، فلا حالة سابقة حتّى تستصحب «1»، انتهى.

و فيه محالّ للنظر:

منها: أنّ الاستصحاب في الأحكام الواقعية في المقام لا يجري و لو فرض وجود اليقين السابق، لعدم الشكّ في البقاء، فإنّ الشكّ فيه إمّا ناشٍ من احتمال النسخ أو احتمال فقدان شرط أو وجدان مانع، و الكلّ مفقود. بل الشكّ فيه ممحّض في حجّية الفتوى و جواز العمل بها، و إنّما يتصوّر الشكّ في البقاء إذا قلنا بالسببيّة و التصويب.

و منها: أنّ حكومة الأصل في المسألة الاصوليّة عليه في الفرعيّة ممنوعة؛ لأنّ المجتهد إذا قام مقام المقلّد- كما هو مفروض الكلام- يكون شكّه في جواز العمل على فتاوى الميّت في الاصول و الفروع، ناشئاً من الشكّ في اعتبار الحياة في المفتي، و جواز العمل في كلّ من الطائفتين مضادّ للآخر و مقتضى جواز كلٍّ، عدم جواز الآخر.

و لو قيل: إنّ مقتضى إرجاع الحي إيّاه إلى الميّت سببيّة شكّه في الاصوليّة.

______________________________

(1)- كتاب البيع، المحقّق الأراكي 2: 488- 493.

الاجتهاد و

التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 503

قلنا: هذا خلاف المفروض، و إلّا فلا يبقى مجال للشكّ له في هذه المسألة، ففرض الشكّ فيما لم يقلد عن الحي فيها.

هذا مضافاً إلى أنّ مطلق كون الشكّ مسبّباً عن الآخر، لا يوجب التحكيم، كما قرّرنا في محلّه «1» مستقصى، و ملخّصه: أنّ وجه تقدّم الأصل السببي أنّ الأصل في السبب منقّح لموضوع دليل اجتهادي ينطبق عليه بعد التنقيح، و الدليل الاجتهادي بلسانه حاكم على الأصل المسبّبي، فإذا شكّ في طهارة ثوب غسل بماء شكّ في كرّيته فاستصحاب الكرّية ينقّح موضوع الدليل الاجتهادي الدالّ على أنّ ما غسل بالكرّ يطهر، و هو حاكم على الأصل المسبّبي بلسانه.

و إن شئت قلت: إنّه لا مناقضة بين الأصل السببي و المسبّبي، لأنّ موضوعهما مختلفان، و المناقض للأصل المسبّبي إنّما هو الدليل الاجتهادي بعد تنقيح موضوعه حيث دلّ بضمّ الوجدان و تطبيقه على الخارج «أنّ هذا الثوب المغسول بهذا الماء طاهر» و الاستصحاب في المسبّبي مفاده «أنّ هذا الثوب المشكوك في نجاسته و طهارته نجس» و معلوم أنّ لسان الأوّل حاكم على الثاني.

و توهّم: أنّ مقتضى الأصل السببي هو ترتيب جميع آثار الكرّية على الماء، و منها ترتيب آثار طهارة الثوب.

مدفوع أوّلًا: بأنّ مفاد الاستصحاب ليس إلّا عدم نقض اليقين بالشكّ، فإذا شكّ في كرّية ماء كان كرّاً لا يكون مقتضى دليل الاستصحاب إلّا التعبّد بكون الماء كرّاً، و أمّا لزوم ترتيب الآثار فبدليل آخر و هو الدليل الاجتهادي.

______________________________

(1)- الاستصحاب، الإمام الخميني قدس سره: 243- 246.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 504

و الشاهد عليه- مضافاً إلى ظهور أدلّته- أنّ لسان أدلّته في استصحاب الأحكام و الموضوعات واحد، فكما أنّ استصحاب الأحكام

ليس إلّا البناء على تحقّقها لا ترتيب الآثار، فكذلك استصحاب الموضوعات. نعم لا بدّ في استصحابها من دليل اجتهادي ينقّح موضوعه بالاستصحاب.

و ثانياً: بأنّ لازم ذلك عدم تقدّم السببي على المسبّبي، فإنّ قوله: «كلّما شككت في بقاء الكرّ فابنِ على طهارة الثوب المغسول به» لا يقدّم على قوله:

«إذا شككت في طهارة الثوب الكذائي فابنِ على نجاسته» و لا يراد باستصحاب نجاسة الثوب سلب الكرّية، حتّى يقال: إنّ استصحاب النجاسة لا يسلبها إلّا بالأصل المثبت، بل يراد إبقاء النجاسة في الثوب فقط، و لا يضرّ في مقام الحكم الظاهري التفكيك بين الآثار، فيحكم ببقاء كرّية الماء و بقاء نجاسة الثوب المغسول به.

إذا عرفت ذلك اتّضح لك عدم تقدّم الأصل في المسألة الاصوليّة على الفرعية، لعدم دليل اجتهادي موجب للتحكيم، و مجرّد كون مفاد المستصحب في الاصوليّة «أنّه لا يجوز العمل بفتاواي عند الشكّ» لا يوجب التقدّم على ما كان مفاده «يجوز العمل بفتاواي الفرعية لدى الشكّ» فإنّ كلًاّ منهما يدفع الآخر و ينافيه.

و ممّا ذكرناه يظهر النظر في ما أفاده من حكومة استصحاب حجّية الفتوى في المسألة الاصوليّة على استصحاب حجّيتها في المسائل الفرعيّة، فإنّ البيان و الإيراد فيهما واحد لدى التأمّل. هذا مضافاً إلى ما تقدّم «1» من عدم جريان

______________________________

(1)- تقدّم في الصفحة 478.

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 505

استصحاب الحجّية؛ لا العقلائيّة منها و لا الشرعيّة.

و منها: أنّ ما أفاده من تقديم الأصل في الفتوى الاصوليّة و لو اريد استصحاب الحكم الظاهري بجهة تعليليّة، غير وجيه و إن قلنا بتقديم الأصل السببي في الفرض المتقدّم على الأصل المسبّبي؛ لأنّ نفي المعلول باستصحاب نفي العلّة مثبت و إن كانت العلّة شرعيّة، فإنّ

ترتّب المسبّب على السبب عقلي و لو كان السبب شرعيّاً.

نعم لو ورد دليل على «أنّه إذا وجد ذا وجد ذاك» لا يكون الأصل مثبتاً، كقوله: «إذا غلى العصير أو نشّ حرم» و هو في المقام مفقود.

و منها: أنّ بنائه على جريان استصحاب الكلّي الجامع بين الحكم الظاهري و الواقعي غير وجيه:

أمّا أوّلًا: فلما مرّ من عدم الشكّ في بقاء الحكم الواقعي.

و ثانياً: أنّه بعد فرض حكومة الأصل السببي على المسبّبي يسقط الحكم الظاهري، و بسقوطه لا دليل فعلًا على ثبوت الحكم الواقعي، لسراية الشكّ إلى السابق كما مرّ منه قدس سره فلا يقين فعلًا على الجامع بينهما، فاستصحاب الكلّي إنّما يجري إذا علم بالجامع فعلًا و شكّ في بقائه، و هو غير نظير المقام الذي بانعدام أحد الفردين ينعدم الآخر من الأوّل، إذ ينعدم الدليل على ثبوته من الأوّل، هذا مع الغضّ عن الإشكال في استصحاب الجامع في الأحكام كما مرّ منّا كراراً.

و منها: أنّ إنكاره جريان الاستصحاب في المسألة الاصوليّة، معلّلًا بأنّه يلزم من جريانه الأخذ بخلاف مفاده، و مثله غير مشمول لأدلّته، غير وجيه؛ لأنّ مفاد الاستصحاب هو سقوط حجّية الفتاوى الفرعيّة، و هو غير

الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، ج 2، ص: 506

اعتبار فتاواه و لا لازمه ذلك و لا الأخذ بفتوى الحي، لإمكان العمل بالاحتياط بعد سقوطها عن الحجّية.

و بالجملة: سقوط الفتاوى عن الحجّية أمر جاء من قبل الاستصحاب، و الرجوع إلى الحي أمر آخر غير مربوط به و إن كان لازم الرجوع إليه البقاء على قول الميّت. و العجب أنّه قدس سره تنبّه على هذا الإشكال و لم يأت بجواب مقنع.

و لو ادّعى انصراف أدلّة الاستصحاب من مثل المقام لكان

انصرافها عن الأصل السببي و عن الأصلين المتعارضين أولى، لأنّ إجراء الاستصحاب للسقوط أسوأ حالًا من إجرائه في مورد كان المكلّف ملزماً بالأخذ بدليل آخر مقابل له في المفاد. و الحلّ في الكلّ أنّه لا فرق بين ورود دليل لخصوص مورد من تلك الموارد و بين ما شملها بإطلاقه، و الإشكال متّجه فيها على الأوّل لا الثاني.

و منها: أنّ ما ذكره أخيراً في وجه عدم جريان الاستصحاب في المسألة الاصوليّة من أنّ المفتي الحي كان يرى خطأ الميّت، إنّما يصحّ لو كان المفتي أراد إجراء الاستصحاب لنفسه، و قد فرض في صدر المبحث أنّه نزّل نفسه منزلة العامّي في الشكّ في الواقعة، و التحقيق هو ما عرفت من عدم جريان الأصل- لا بالنسبة إلى المفتي و لا بالنسبة إلى العامّي- في المسألة الاصوليّة.

________________________________________

خمينى، سيد روح اللّٰه موسوى، الاجتهاد و التقليد (معتمد الأصول)، در يك جلد، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خمينى قدس سره، تهران - ايران، اول، 1420 ه ق

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.